العدد 8 - اقليمي
 

لا مبالغة في رأي غير باحث وكاتب أن 2007 شهد ثالث أعظم مصيبة تحل بالفلسطينيين منذ قيام إسرائيل في 1948 ومن ثمّ الاحتلال في 1967، فإذا كانت الأولى نكبة والثانية نكسة فيمكن اعتبار ما جرى في العام الذي انقضى «تهلكة». ولا يزيد أحد في الطنبور نغماً إذا ذهب إلى أن «الوطنية الفلسطينية» أصيبت بما كاد يأخذها إلى الاحتضار، فقد ضرب تشوش كبير المحرمات والثوابت والمواضعات الأخلاقية والدينية والتربوية، ومع تفشّي خراب مؤسساتي واهتراء اجتماعي وانكشاف أمني، ومع التعامل بروتينية مع الممارسات الوحشية التي لم يكف المحتل الإسرائيلي عن ارتكابها في غير موضع في «جناحي» الوطن، الضفة الغربية وقطاع غزة.

ولا يمكن حسبان ما أقدمت عليه حركة المقاومة الإسلامية حماس في دفع الانقسام الحاد في المجتمع الفلسطيني نحو الحسم العسكري والحرب الانقلابية واقعة هيّنة الأثر وإن كانت موجعة، وتصنيفها على أنها من عادي الصدامات التي قد تحدث بين قوى وطنية متآخية في أهدافها التحررية، ذلك لأن اشتباك الرؤى والخيارات وتضارب الأهواء والبواعث بين طرفي التقاتل المسلح، في جولاته الدامية في قطاع غزة بين ميليشيات حماس ومسلحيها من جهة وعناصر الأمن في السلطة الوطنية ومنتسبين إلى حركة فتح لم يكونا بسبب اختلاف في أساليب وممارسات الإدارة والتسيير العام فحسب، بل أيضاً بسبب انصراف كل طرف إلى منطقة في التعاطي مع الاحتلال متناقضة تماماً مع الأخرى، ما جعل مساحة عريضة في حماس تتوسل أحياناً تفسيراً دينياً لجهادها ضد «الفاسدين والعملاء» في فتح وفي مؤسسات وأجهزة السلطة، ما «أوجب طردهم واستهدافهم وأسرهم بالقتل والخطف والترويع». وكانت عناصر غير قليلة في الطرف الآخر مهووسة بامتيازات وحصص في السلطة والنفوذ والزعرنة وجدتها تتهاوى، وتستعين بكل ما تيسر من وسائل الإسناد الخارجية، من دون كثير اعتبار للمقتضيات الوطنية والأخلاقية، وأخفقت في حماية نفسها، وفي وقف الانحدار العام.

انصرف 2007 وقد تسمى بعام «الانقسام الفلسطيني»، ولذلك يصير بديهياً أن تنصرف الآمال إلى أن يتم تجاوز هذا الحال المقيت في العام الجديد، لا سيما أن خيار إبقاء الحال على ما هو عليه لم يعد هناك قدرة على احتماله واستمراره، فهناك السلطتان والحكومتان في الضفة والقطاع، وهناك الحصار «الإسرائيلي» الشديد الشناعة، والتذرر المؤسساتي الهجين والمستهجن، وهناك أوجه ضعف سلطة القانون مع تعددوازدواجية أجهزة الأمن. وإذا كانت حماس بانفرادها في قطاع غزة لم تتيّقن بعد من فشلها في سيطرتها الأمنية شبه المطلقة وإخفاقها في تأمين مستلزمات ومتطلبات الحياة لأهل القطاع وسكانه، فإنها مدعوة من جديد في عام الآمال الفلسطينية الصعبة والمتعبة لأن تبادر إلى لحظة شجاعة، وقد استنزف «الكفاح المسلح ضد الذات» أغراضه، فتقر بأن للسياسة فنونها وصيغها وأدواتها، وأياً يكن منظورنا إلى سوء الأداء السياسي لفريق قيادة السلطة الوطنية، فإن أحداً لا يمكنه أن يؤشر إلى شيء من «نجاعة» في طرائق فريق اسماعيل هنية ومحمود الزهار ورفاقهما في القطاع الذي هو في فم الذئب الإسرائيلي، وتقرر إسرائيلياً إنهاكه (القطاع ) وإيصاله إلى حال صومالية، وإلى أن يصير بقعة من الأرض تغالب المجاعة الدائمة والكوارث الصحية المستمرة، وينشغل أهله وناسه بمسكنات من هنا وهناك، والتلهي بمطالبة المجتمع الدولي بمسؤولياته.

هي الآمال وليس غيرها في أن تواجه حماس سياسة إسرائيل هذه التي تأخذ قطاع غزة إلى انهيار كامل في كل مناحي الحياة بالانسحاب إلى حيث كانت حركة مقاومة، تجاهد من أجل التوافق الفلسطيني العام على رؤية وطنية عملية، تفيد من خسارات وخيبات وممارسات بالغة الرداءة نتائجها ماثلة أمام الجميع، طالت منذ نحو ست سنوات، منذ انحرفت الانتفاضة الفلسطينية إلى أساليب ومواجهات مع المحتل كانت أكلافها مهولة ميدانياً ومعيشياً وسياسياً، فيكون التوافق على ترشيد جهد المقاومة بما يحمي الفلسطينيين من غلواء المحتلين وعصاباتهم. يؤتى على هذا المطلب البالغ الحيوية وقد تأكد أن الصواريخ العبثية وقبلها العمليات الاستشهادية في داخل الكيان الإسرائيلي وتصيّد المدنيين لم تأت بثمار أي كفاح وصمود. كما تعبت جميع الفصائل والقوى من موجات القتل والأسر والقصف والتمويت، وتدمرت بنيات عامة في المجتمع، وتحطمت مظاهر القوة والمناعة لدى السلطة الوطنية، فتردت تشكيلاتها الشرطية والأمنية، وراح مطار غزة وميناؤها، وتدمرت اقتصادات غير قليلة على صعد الزراعة والصناعة والخدمات وغيرها، وخطف آلاف الشبان والشابات في سجون الأسر الإسرائيلي، ناهيك عن أن آلافاً من الشهداء والجرحى والمصابين سقطوا، مضافاً إلى ذلك كله تزايد الجرائم والسرقات والصدامات العائلية والعشائرية في المجتمع، وضعف الأداء في التعليم على تنوع مستوياته، وتناقص التعاطف العربي والعالمي مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني، ووصم الكفاح بشائنة الإرهاب، وبروز مجموعات قاعدية وزرقاوية القناعات أقدمت على خطف أجانب واعتدت على مدارس ومراكز تربوية ومقاهي انترنت، وازدياد الإحباط واليأس ونزوع أغلب الشبان للهجرة إلى الخارج، بدلاً من العطالة والمكوث في المقاهي، ولعن حماس وفتح والسلطة الوطنية والعرب وأميركا.

هي بعض ما باتت حالات ومعاينات مشهودة في الحالة الراهنة في الأراضي المحتلة من نتاج سنوات الانتفاضة التي كانت مغامرتها في أسابيعها الأولى بالتسلح والعمليات الاسشتهادية ضد المدنيين من أسباب انتحارها وأهوال خسائر وتضحيات لفلسطينيين في أثنائها.مضى مسار هذه الأحوال التي جاء الإيجاز السابق على بعضها إلى أن وصل إلى وقائع 2007 الدامية، فتبدى تفسخ عنيف، ومن المفارقات الشديدة الأهمية وتستحق من حماس وغيرها انتباها حاذقا إليها أن العام المنصرف كان الأكثر هدوءا في إسرائيل منذ 20 عاماً، فقد قتل 11 إسرائيلياً فقط في هجمات وعمليات فلسطينية بينهم أربعة جنود، وعلى ما ذكرت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية «بتسليم» فإن 467 فلسطينياً قضوا برصاص الاحتلال.

وفي المناخ الشديد البشاعة ليس من اليسير عثور الباحث على تقديرات مؤكدة لأعداد ضحايا التقاتل الذي استهل العام 2007 في الشهر الأول منه، في مواصلة جولات سابقة للعام السابق عليه، ثم كان ما كان بعد أسابيع من توقيع اتفاق مكة المغدور، إلى أن وقع الحسم العسكري والانقلابي إياه في منتصف حزيران/يونيو الماضي، وتقترب الحصيلة من نحو 700 قتيل عدا عن مئات المصابين الذين تعمّد قناصة وموتورون إعاقتهم في أرجلهم وأقدامهم، وتبدى أن «فنوناً» شنيعة في التمويت انتهجها المتحاربون في جولات الصدام والسيطرة والخطف، وقد وصفت منظمات حقوقية فلسطينية مستقلة بعض تلك الممارسات بجرائم حرب، وذكرت أيضاً أن انتهاكات مريعة لحقوق الإنسان تحدث في سجون السلطة الوطنية ضد محتجزين من حماس وفي سجون الأخيرة ضد محتجزين في حركة فتح.

انصرف العام التعيس بعد أن أشيعت في أسابيعه الأخيرة آمال، أو أوهام ربما، بأن يعرف 2008 تنشيطاً سياسياً جدياً لعملية التفاوض بين منظمة التحرير (ما أخبارها؟) وإسرائيل، ما عنى أن إحياء تم لعملية السلام التي كان الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى قد أعلن موتها ونعاها في عام سابق. وجاء لقاء أنابوليس الدولي للسلام في الشرق الأوسط لينتشل هذه العملية من رقدتها، في مشهدية امبراطورية أميركية تلفزيونية تحتشد بالمعاني والرموز والحقائق. ولأن الفلسطينيين ومعهم العرب، في حال من الضعف والاستضعاف شديد، فإنه

ليس في وسعهم غير الرهان على أن تصدق الآمال والتمنيات، وقد أشار الرئيس محمود عباس إلى ذلك في قوله إنه ليس هناك أي ضمانات لجدية إسرائيل في مباشرة مفاوضات حقيقية تصل بالفلسطينيين إلى الدولة المستقلة وتنهي الاحتلال وتضع معالجة لقضية اللاجئين وتحسم قضايا القدس والاستيطان والحدود.

وما أن سيقت الآمال في هذا الاتجاه، حتى أشهرت إسرائيل تنشيطاً لعملية استيطان واسعة في محيط القدس المحتلة، ولم تتوقف عن عمليات القتل اليومي في قطاع غزة وعمليات الدهم في غير منطقة في الضفة الغربية، فيما مثل استهتاراً مكشوفاً بخطة خريطة الطريق واستحقاقاتها، وهي التي صارت وكأنها بديلاً مقبولاً عن قرارات الأمم المتحدة التي كان يتم التشديد على أنها التي تحفظ الحق الفلسطيني.

تحت وطأة أثقال الأهوال التي اشتدت في 2007، لا شيء غير الآمال أيضاً بأن تجد خطة مؤتمر باريس للدول المانحة الذي انعقد الشهر الماضي في صرف نحو 7 مليارات دولار من المساعدات في تمويل خطة إنمائية طموحة في الأراضي الفلسطينية تنقذ شعب هذه الأراضي من البؤس الذي يتمثل في ارتفاع نسب البطالة إلى أكثر من 60% في الضفة الغربية و80% في قطاع غزة، وفي وقوع نحو مليون و400 ألف فلسطيني تحت خط الفقر. وهي خطة تطمح إلى تحقيق عملية إنمائية في السنوات الثلاث المقبلة، وتهدف أساساً إلى بناء مؤسسات متينة واقتصاد قابل للحياة في الدولة الفلسطينية التي قيل في مؤتمر أنابوليس أنه يزمع قيامها. وكما في كل جولة من الآمال ، فإنها لا بد وأن تتم المراهنة لتحققها على شيء من «مروءة» إسرائيلية (ابتعاداً عن مفردة الجدية الرتيبة ليس إلا )، وتقتضي إزالة نحو 500 حاجز عسكري من مناطق الضفة الغربية، وأن تعمل على تسهيل عملية التنمية وتنقل البضائع والأفراد بين المدن والقرى الفلسطينية. على أن يتوازى ذلك مع فرض السلطة الوطنية الأمن والقانون والنظام. وفي الأثناء يتم تجاهل 40% من الشعب يقيمون في قطاع

غزة التي لا تحظى بشيء من المشاريع والخطط الإنمائية الموضوعة، ما يعني أن الآمال مترابطة، تتقاطع فيها مسألة إنهاء الحالة الشاذة التي ارتكبتها حماس في القطاع مع موجبات إسرائيلية والتزامات مطالبة بها السلطة وحكومتها.

تتراكم الآمال المتعبة هذه، بعد عام أثقله التردي والاهتراء القبيح، يلتقي فيها الوطني الفلسطيني المحض مع الشأن الاقتصادي والإنمائي الانقاذي ومع السياسي في الاشتباك التفاوضي مع حكومة إسرائيلية متطرفة، تساندها إدارة أميركية ليست أقل تطرفاً... هذه بعض عناوين عريضة في مطلع عام فلسطيني جديد.

بعد عام التهلكة: 2008 عام التمنيات الفلسطينية الصعبة – معن البياري
 
03-Jan-2008
 
العدد 8