العدد 48 - أردني | ||||||||||||||
دلال سلامة من يراقب نوعية الأسئلة التي تطرح في برامج الفتاوى على شاشات الفضائيات، أو على مواقع شبكة الإنترنت المتخصصة في الفتاوى، سيجد صعوبة كبيرة في الاقتناع بأن من يطرحون أسئلة كهذه ينتمون إلى هذا الكوكب، وإلى هذا العصر الذي اكتشف فيه الإنسان مجاهيل الفضاء، وفك شيفرة الخارطة الجينية، وفتت الذرة، ذلك أنه سيصدم بأسئلة من طراز: هل يعتبر ركوب المرأة سيارة الأجرة وحدها مع سائق أجنبي خلوة شرعية؟ أو ما هو حكم لبس البنطلون؟ أو ما هو حكم لبس الساعة في اليد اليسرى؟ أو – وهذا سؤال موجود فعلا على أحد مواقع الفتوى – ما هو حكم لبس الملابس البيضاء؟ أسئلة مثل هذه لا تثير الدهشة فقط، بل والمرارة أيضا، ففي الوقت الذي يسير فيه العالم إلى الأمام، إلى المستقبل، نسير نحن بخطى حثيثة إلى الوراء، فنجد أننا، وفي هذا العصر، أكثر تخلفا مما كنّا قبل مئة سنة. قبل ثلاث سنوات، احتفل العرب بمرور مئة عام على وفاة المفكر التنويري محمد عبده، الذي يعتبر أحد رموز ما يسمى «عصر النهضة العربية»، وهي مرحلة حاول فيها مع آخرين مثل جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وغيرهم، إصلاح المجتمع وتجديده على أسس الحداثة الغربية في ذلك الوقت، من خلال حركة التجديد الديني أساسا. ولكن مقارنة سريعة بين بعض فتاوى الشيخ عبده وفتاوى شيوخ هذا العصر ستكشف، حالة التراجع التي نعيشها. الشيخ عبده مثلا حلل التعامل مع البنوك وأباح فوائدها، ورأى أن العقد هو شريعة المتعاقدين، فالبنوك تأخذ من الناس أموالهم برضاهم وتدخل بها في شكل منظم في مشروعات تحتاج إلى أكثر من شخص لتمويلها، وتعطي الناس جزءاً من أرباحها. أما اليوم فكثير من الشيوخ يحرمون إيداع الأموال في البنوك، حتى لو تم ذلك دون تقاضي الفائدة. كما أنهم يحرمون العمل فيها، وفي الشركات التي تتعامل معها، مثل شركات الكمبيوتر التي تقوم بالبرمجة وصيانة الحواسيب. من فتاوى محمد عبده الجريئة - قياسا بذلك العصر – هي تحليله للتصوير الفوتوغرافي والتماثيل، وقد فسر عبده حديث الرسول «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»، بأن المقصود هو ما كان يحدث أيام الوثنية، عندما كانت التماثيل تصنع للتبجيل والتبرك، وهو ما يتناقض تماما مع فتوى أصدرها مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة قبل سنتين، حرم فيها التماثيل التي توضع في البيوت للزينة. وقد أثارت هذه الفتوى في حينه ضجة كبيرة بين المثقفين ووصفت بأنها «طالبانية»، في إشارة إلى ما قامت به حركة طالبان في العام 2001، عندما قامت بتحطيم تمثالين عملاقين لبوذا عمرهما 1500 عام. كما أفتى الشيخ عبده أيضا بأن من حق الأم المسيحية حضانة أطفالها، مبررا ذلك بأن العاطفة لا تتبدل بالدين. وهي فتوى تأخذ أهميتها مما نراه اليوم من استشراء للنزعات الطائفية والمذهبية، وازدياد حمى التأليب على أتباع الديانات الأخرى. ففي أواخر العام 2001 لقي مجند مسيحي في الجيش اللبناني مصرعه ، على يد زميله الذي أطلق عليه النار بعد فتوى سمعها من أمام مسجد بلدته (وادي خالد شمال لبنان)، أحل فيها قتل المسيحيين. وما زالت في الذاكرة تصريحات المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، مصطفى مشهور، التي اعتبر فيها الأقباط أهل ذمة، عليهم دفع الجزية للدولة الإسلامية. وقبل أيام نزحت 1650 عائلة مسيحية من منازلها في مدينة الموصل إلى بغداد، بعد أن خيرت بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو القتل. طبّق الشيخ محمد عبده نزعته العقلانية على تفسيره لآيات القرآن الكريم، ففسر الآية «من شر النفاثات في العقد» بأنها تتحدث عن «النمامين المقطعين لروابط الألفة»، نافيا أن يكون السحر حقيقة ملموسة، واعتبر ما يفعله المشعوذون ضربا من الحيل الخفية والأساليب الماكرة. ويمضي محمد عبده فيرد حتى الأحاديث الصحيحة في السحر، ويقول إن ما ورد في القرآن في شأن السحر، هو أسلوب من أساليب «التمثيل». على النقيض من هذه العقلية المنفتحة والفكر المستنير، تنتشر على شاشات الفضائيات برامج تطرح فيها قضايا تنحو في معظمها نحو أمور عديمة الأهمية، كما أنها تعتمد تغييب العقل والتركيز على الخرافات، كما يرى الدكتور سالم ساري، أستاذ علوم الاجتماع والفكر والحضارة في جامعة فيلادلفيا. ففي العام الماضي، ظهر «الداعية» المصري سيد زايد على شاشة برنامج «فقه المرأة» الذي يبثه التلفزيون المصري، مصدرا فتوى يحلل فيها زواج الإنس من الجن. وفي حين أن كثيرا من المواطنين العاديين، ناهيك عن الدعاة، بدأوا يرتدون ملابس تحاكي ما يعتقدون أنها «ملابس السلف»، فإن محمد عبده أثناء توليه منصب مفتي الديار المصرية بين عامي 1899 و1905، أفتى بجواز ارتداء الملابس الغربية من قميص وبنطلون وقبعة، وهو أمر قد يبدو اليوم عاديا، ولكن جرأة الفتوى تأتي من حقيقة أن الجميع كان وقتذاك، يرتدي الجلباب. ومع ذلك، فما زال هناك من ينشغل بتحريم ارتداء الملابس الوافدة من الغرب، فالشيخ ناصر الدين الألباني يحرم مثلا ارتداء البنطلون، ويصفه بأنه «من المصائب التي أصابت المسلمين في هذا الزمان؛ بسبب غزو الكفار لبلادهم، وإتيانهم بعاداتهم وتقاليدهم إليها»، فضلا عن كونه - بحسب قوله يحجّم العورة فإنه لباس الكفار. إحدى فتاوى الشيخ عبده الجريئة، تتعلق بمسألة تعدد الزوجات، فالشيخ يرى أن من حق الحاكم أن يمنع تعدد الزوجات، كي يمنع الفساد الذي هو برأي الشيخ غالب. وهو يعتمد في ذلك على أن التعدد مشروط بالعدل الذي هو «مفقود حتما». في مقابل ذلك، هناك من المشايخ من ما يزال يرى أن تعدد الزوجات هو الأصل، فعبد الله بن سردار، خطيب جامع العمودي في المدينة المنورة، يرى أن «تعدد الزوجات عمل مستحب.» ويرى أيضا «إن التعدد هو السنة». أما الشيخ ابن باز مفتى السعودية الراحل، فقد شدّد على ما في «تعدد الزوجات من المصالح العظيمة للرجال والنساء والأمة الإسلامية جمعاء». ما الذي خلق هذه المفارقة؟ ما الذي جعل فتاوى محمد عبده، التي يفترض أن نكون قد تجاوزناها منذ زمن، تبدو ثورية في عصرنا هذا؟ سالم ساري، يرى أن رواد عصر النهضة مثل محمد عبده وغيره، كانوا مستنيرين حقا، وأن هدفهم كان تنقية الدين من الشوائب التي علقت بها في عصور الانحطاط، فكانت فتاواهم تنموية حقيقية لم تلتزم بحرفية النص، بل بروحه، مستخرجة منه المقاصد التنويرية الحقيقية للدين، أما فتاوى اليوم فهي كثيرا ما تتمحور حول أمور هامشية، ويختلط فيها ما هو ديني بما هو سياسي، كما أنها تتميز بضيق الأفق. وبحسب موسى شتيوي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، فإن السبب هو: الخلاف حول الهدف. فالهدف الذي سعى إلى تحقيقه محمد عبده ورفاقه وتلامذته، مختلف عما يسعى إلى تحقيقه «أمراء الحركات الدينية المعاصرة»، كما يرى. "محمد عبده وتلامذته كانوا يحملون مشروعا نهضويا تنويريا، يهدف إلى النهوض بالمجتمع وتحويله من مجتمع زراعي، أو شبه زراعي، إلى مجتمع حديث، وهم كانوا ينظرون إلى الغرب بوصفه مثالا لهذه الحداثة". وفي المقابل، كما يرى شتيوي، فإن الحركات الدينية المعاصرة "تحمل مشروعا مغايرا، إنها لا تريد تحويل المجتمع ليصبح مجتمعا حديثا، لأنها ترى أن المجتمع الحديث فاسد ولا أخلاقي، وهدفها بالتالي العودة إلى المجتمع الذي يشكل المثال بالنسبة لها، وهو مجتمع عصر الإسلام الأول ودولة الخلافة، فهذا، بالنسبة لها، هو العصر النقي الطاهر". ويؤكد ساري أن الدين يقوم على خمس ركائز هي: العقل، وهو ما تغيبه معظم الفتاوى المعاصرة، والإنسان، ومعظم الفتاوى المعاصرة تمتهن كرامته، والقوي، ومعظم الفتاوى تركز على الضعف والخنوع، والإنجازات والإبداعات والاكتشافات، ومعظم الفتاوى المعاصرة تعتبر كل إبداع بدعة، والحياة الحرة الخالية من الظلم والاستبداد، وليس هذا هو نمط الحياة الذي نعيشه في هذا العصر. وكما لو أن محمد عبده كان يتوقع ما نراه اليوم من فتاوى تنحو إلى الخرافة ولا تخاطب العقل، فقال: «دون استخدام العقل، فلن يحرز المسلمون أي تقدم وتطور». |
|
|||||||||||||