العدد 48 - أردني
 

دلال سلامة

برزت إلى الواجهة، في السنوات الأخيرة، ما يمكن تسميتها بظاهرة الفتاوى السياسية. فقد تحولت الفتوى من كونها سعيا إلى معرفة رأي الشرع في سلوك معين أو قضية ما، إلى سلاح في يد الجهات السياسية المتناحرة، حكومية كانت أم غير حكومية.

ولكن قراءة متأنية للفتاوى السياسية وملابسات صدورها تكشف عن أن ما يحدث ليس جدلا دينيا، ولا تعبيرا عن اختلاف مشروع يعكسه التنوع، بمقدار ما هو تحول إلى إقحام الدين في الشأن السياسي، وتحويل للفتاوى من كونها رأيا دينيا في قضية دينية ما، إلى سلاح في يد الأحزاب أو الحكومات يستخدمها كل منها كيف يشاء.

خلال أزمة الخليج التي نجمت عن اجتياح العراق للكويت في صيف العام 1990، وهو ما أدى إلى ما يعرف بحرب الخليج الثانية، انعقد مؤتمران إسلاميان، واحد في بغداد، ضم القوى الإسلامية المؤيدة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وآخر في جدة ضم القوى والأحزاب الإسلامية المعارضة له والمؤيدة لإخراج قواته من الكويت. وقد صدرت عن هذين المؤتمرين قرارات، تعادل الفتاوى، يناصر كل منهما ما يراه صوابا في هذه القضية. وبغض النظر عن أحقية كل من المشاركين في المؤتمرين في دعاواهم ومواقفهم السياسية، فقد جند كل فريق حججا وأدلة شرعية استنبطها من القرآن والحديث والتراث لدعم وجهة نظره، في مثال صارخ على تحول الفتوى إلى سلاح سياسي بين خصوم سياسيين.

وعلى خلفية هذا الانقسام، دخل الإخوان المسلمون في الأردن في خصومة مع "إخوانهم" الكويتيين، المنضوين تحت لواء "جمعية الإصلاح الاجتماعي"، وهي الإطار التنظيمي لهم، ففي الوقت الذي وقف إخوان الأردن، ومعظم فروع الإخوان المسلمين في العالم العربي، إلى جانب النظام العراقي في ما اعتبروه "معركة ضد العدو الأجنبي،" وقف أخوان الكويت مع عودة أرضهم إليهم، حتى لو كان ذلك على أيدي تحالف يقوده الأميركيون. وكان لكل من الجانبين من يصدر الفتاوى الدينية ليبرر موقفه السياسي.

لكن هذا ليس المثال الوحيد على استخدام الفتوى الدينية في شأن سياسي، ففي فلسطين، دأبت حركة حماس على أداء صلاة الجمعة في الميادين والساحات العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة، كنوع من استعراض القوة السياسية والجماهيرية، ولكن الحركة نفسها حاولت، بعد استيلائها على قطاع غزة في أواسط العام 2007، منع أنصار حركة فتح من أداء صلاة الجمعة في ميادين غزة كنوع من استعراض القوة الجماهيرية والاحتجاج على حكم حماس، فقد اعتبرت الصلاة حركة سياسية موجهة ضدها. وشاهد الملايين أفراد القوة التنفيذية وهم يضربون المصلين بالهراوات على شاشات التلفزيون. وقد أصدر حركة حماس فتوى على لسان أحمد شويدح رئيس دائرة الفتوى في رابطة علماء المسلمين المعروفة بقربها من الحركة تحرم الصلاة في الميادين العامة، طالما أن هناك مساجد، في حين كان علماء الدين المقربين من السلطة الفلسطينية، يحللونها.

وحين جرت الانتخابات الرئاسية اليمنية في العام 2006، أصدر الشيخ اليمني أبو الحسن السليماني، وهو أحد الدعاة الحركة السلفية في اليمن، فتوى يعارض فيها ترشيح علي عبد الله صالح عن الحزب الحاكم لأنه هو "ولي الأمر".

في المقابل أفتى الشيخ أبو حسن المأربي، وهو معروف بموالاته للنظام، بعدم جواز ترشيح أحد غير علي عبد الله صالح باعتباره "ولي الأمر"، واعتبر من "يخالف هذا الأمر مخالفا لمبادئ الإسلام."

ما يعمق فوضى المشهد، هو أن بعض الجهات، أفرادا كانوا أو جماعات أو هيئات أو تنظيمات، تصدر فتاوى تتميز بالتناقض فيما بينها، أو أنها تصدر فتوى في قضية ما، وتحجم عن ذلك في قضية أخرى، فحين احتلت القوات الأميركية العراق، رفض شيخ الأزهر الإفتاء في القضية قائلا: "إن الإفتاء مقصور على حدود مصر، وليس من حق أي عالم مصري أن يتحدث في شأن أي دولة." لكنه، هو ذاته، ناصر موقف الحكومة المصرية حين ثارت مشكلة حجاب الطالبات المسلمات في فرنسا، وأصدر فتوى في العام نفسه، تدعو إلى وجوب الخضوع للقانون الفرنسي ، وتؤيد "حق فرنسا في إصدار ما تراه من تشريعات".

أما يوسف القرضاوي فهو صاحب الفتوى التي تقول إن "قتال أميركا هو فرض عين على كل مسلم"، وهو أيضا الذي أفتى بجواز مشاركة المسلمين الأميركيين في عمليات الجيش الأمريكي في أفغانستان.

سري ناصر، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، يفسر ظاهرة الفتاوى السياسية بأنها نتيجة طبيعية ل "هيمنة الأنظمة السياسية على كل مناحي الحياة، ما جعل المؤسسة الدينية، شأنها شأن باقي مؤسسات المجتمع، هي مجرد أداة في يد النظام، توظفه لخدمة أغراضها."

النائب الإسلامي حمزة منصور يعترف بوجود فوضى في الفتاوى السياسية مردها، بحسب قوله هم "زمرة من العلماء المرتزقة". وهو يرفض أن تكون هذه الفوضى ذريعة لإخراج الإسلام من السياسة، لأن "إخراج الإسلام من السياسة هو إخراج له من طبيعته."

كما يرفض منصور الدعوات التي نادت بتوحيد جهة الإفتاء، ويرى أنها "مصادرة لحق من حقوق العلماء،" في إشارة إلى ما قام به الأردن في العام 2006، عندما أصدر قانونا حصر فيه حق الإفتاء بدار الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية، وهو القانون الذي تضمنت المادة 12 منه نصا على أنه "لا يجوز لأي شخص أو جهة التصدي لإصدار الفتاوى الشرعية في القضايا العامة."

موسى شتيوي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، لا يرى في الفتاوى السياسية ظاهرة غريبة، فهي، في رأيه، جزء من الحراك السياسي "الفتوى، في الأساس، هي تفسير لموقف أوتبرير له، وهو أمر تمارسه كل الحركات السياسية في العالم أكانت دينية أم غير دينية." ولكنه يعتقد أنه لا يمكن بأي حال، مقارنة التفسير أو التبرير الذي تقدمه حركة فكرية غير دينية لمواقفها بالفتاوى السياسية، فللفتاوى سلطة وتأثير، ذلك أنها كما يقول "تستمد سلطتها من الدين، ومن إيمان الناس الراسخ به"، وهو ما جعلها سلاحا حاسما في أيدي المتناحرين.

الفتاوى السياسية: حين يتحول الدين سلاحا في أيدي الخصوم
 
23-Oct-2008
 
العدد 48