العدد 48 - أردني
 

محمود منير

«وكما كانت آراؤك ضياءً يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماما اهتدى به المسترشدون»، مقطع كتبه مفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده في واحدة من مراسلاته الشهيرة مع الروائي الروسي ليو تولستوي، مراسلات نشرت مؤخراً بعد مضي قرن من الزمان على حوارٍ عميق بين مفتٍ وروائي التقيا فيه على التنوير وضرورة إصلاح مجتمعاتهما واختلفا في أمور عديدة لم تفسد الاحترام والتقدير بينهما.

فترات استثنائية كانت تسود فيها لغة الحوار بين رجال الدين والأدباء والمفكرين في التاريخ العربي الإسلامي، فيما كان الصدام سمة غالبة تشير لها شواهد تاريخية عديدة. ويرى محمد ناصر الدين الألباني في كتابه «منهج الخوارج» أن أول فتوى جرى فيها التكفير في التاريخ الإسلامي أطلقها الخوارج حينما كفرّوا علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ومن وقف معهما من الصحابة في صراعهما، معتبرين أن تلك الفتوى صادرت آراء ووجهات نظر في فكرة الخلافة ورأت الأحقية المطلقة للرأي القائل «إن الخلافة حق من حقوق المسلمين يتساوى فيه العربي وغير العربي كما يتساوى فيه الأحرار والأرقاء» كما يقول الألباني.

غير أن فتاوى الخوارج وما تلاها من فتاوى في هذا السياق جاءت في إطار الصراع على الخلافة، ولم تكن ضمن جدل فكري أو ثقافي. وكان على فتاوى تكفير الأدباء والشعراء أن تنتظر حتى أواخر الدولة الأموية، وبحسب كتاب «الكتاب، الأمس، اليوم"، لأدونيس، فإن أول من قتل لأرائه كان الشاعر والفيلسوف غيلان الدمشقي العام 723 ميلادية بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك تنفيذاً لفتوى من الإمام الأوزاعي، لنفيه أية شرعية حاكمية لسلطة الخليفة، بخلاف اعتمادها العقلانية في تشريعاتها، وتحميل الفرد في المجتمع المسؤولية عن أفعاله من خلال القول بالحرية التي يتمتع بها لاختيار هذه الأفعال، كما قتل الجعد بن درهم على يد خالد القسري، والي الكوفة، في يوم عيد الأضحى العام 124 هـ بأمر من هشام بن عبد الملك؛ وذلك بسبب آرائه العقلية في تفسير القرآن وتأسيسه لمذهب فلسفي، فاعتبر أول مخالف لأهل السنة والجماعة.

ورجوعاً لكتابي "مروج الذهب" للمسعودي و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، فإن من أوائل الفتاوى بتكـــفير أديب، كانــت تلك التــي صدرت ضد ابن المقفع تتهمه بالزندقة، ومنذ تلك الحادثة لم تتوقف المواجهة بين ممثلي السلطة الدينية، أو من اعتبر نفسه ممثلا لهم، وبين المفكرين والكتّاب.

وإذا قصرنا الحديث على ما حدث في القرنين الماضي والحاضر، فإننا نخرج بقائمة طويلة بمن صدرت ضدهم فتاوى بالكفر أو الردة تبدأ بالكاتب والقاضي المصري علي عبد الرازق على كتابه "الإسلام وأصول الحكم" في العام 1925، ثم تلاه تكفير أحد نواب حزب الوفد المصري لطه حسين، متهماً عميد الأدب بأن كتابه (في الشعر الجاهلي) مملوء بالأخطاء والزندقة والكفر ويشوّه الإسلام، ليتطاول بعدها تهمة التكفير عددا من الكتاب منهم: نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وأسامة أنور عكاشة والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وزميله حلمي سالم ونوال السعداوي التي لا تزال تعيش في الولايات المتحدة، وتخشى العودة إلى مصر حيث صدرت كل هذه الفتاوى بالتكفير.

وفي لبنان وجهت تهم مماثلة لكتاب وصحفيين وفنانين عرب آخرين منهم الفنان اللبناني مارسيل خليفة لغنائه قصيدة "أنا يوسف يا أبت" للشاعر الراحل محمود درويش، وأحرقت رواية"وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر على الرغم من أن الرواية كانت قد صدرت قبل 17 عاماً من تاريخ الفتوى، كما طاولت التهم الشاعر والناقد اليمني عيد العزيز المقالح ومواطنه الروائي محمد عبد الولي على روايته "صنعاء مدينة مفتوحة" التي كانت قد صدرت قبل ذلك بأكثر من ربع قرن.

وعلى الرغم من مشاعر الاستهجان التي عمت الأوساط الثقافية والأدبية ضد مصدري الفتاوى ومتعهدي قانون "الحسبة" الذي اعتمد عليه عدد من محترفي رفع الدعاوى القضائية ضد الأدباء والفنانين والمثقفين، فإن سيل فتاوى التكفير لم ينقطع، فقد صدرت مؤخراً فتوى للشيخ سليمان بن صالح الخراشي (السعودية) كفر فيها أكثر من 65 كاتباً وفناناً وصحفياً عربياً منهم: محمود درويش، مؤنس الرزاز، جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، فدوى طوقان، الطيب صالح، أدونيس، بدر شاكر السيّاب، أم كلثوم، كاظم الساهر، جبران خليل جبران وطه حسين.

وأخيراً وصلت حمى فتاوى التكفير إلى الأردن الذي بقي في منأى عن هذه الموجة التكفيرية التي اجتاحت العالم العربي في العقدين الماضيين، ففي العام 1999 صدرت مجموعة «شجري أعلى» للشاعر موسى حوامدة، وبعد ذلك بعام بدأت محاكمته بتهمة الردة، واليوم يقبع الشاعر إسلام سمحان وراء القضبان نتيجة فتوى أصدرها المفتى العام للمملكة نوح القضاة.

مهند مبيضين، مدرس التاريخ العثماني في جامعة فيلادلفيا، يؤكد على أن المفتين مارسوا رقابة هائلة على سلطة العقل والإبداع، وبما أنهم كانوا جزءاً من السلطة والنظام أصبحوا جزءاً من أدواتها القمعية، وكان الصدام نتيجة حتمية بين المؤسسة الدينية وأصحاب الفكر والإبداع، لأن الفقه لم يحدث ولم يطور، حسب قوله، كما أن المؤسسة الرسمية العربية صادرت جهاز الإفتاء منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة، ولما ظهر مبدعون جرى استقطابهم أو نفيهم، فاستقطب أصحاب التنازلات الكبرى، فيما واجه أصحاب الفكر الحر القمع والتضييق فأقصوا وهمّشوا ونفوا، يؤكد مبيضين.

«الإفتاء لم يتغير تاريخياً، فاللحظة المعاصرة متصلة بمفهوم الإفتاء عبر التاريخ الإسلامي، والتي تجعل منصب «شيخ الإسلام» أو «المفتي الأكبر» صاحب سلطة موازية في إطار منح الشرعية للسلطان،» يقول مبيضين.

ويأسف الشاعر طاهر رياض لعدم وجود معايير ثابتة للإفتاء، في اللحظة الراهنة وحتى عبر التاريخ العربي الإسلامي، مشيرا إلى أن المعايير تابعة لمزاج هذا المفتي أو ذاك، وهذا المجتهد أو ذاك. وأشارً إلى تكفير بعض الأئمة والشعراء والفلاسفة في أزمنة محددة من تاريخنا العربي الإسلامي، ليعاد لهم الاعتبار والتقدير فيما بعد في أزمنة أخرى بعد أن اختلف المفتي أو ذو الشأن في هذا الأمر.

ويضيف: «لو أردنا أن نطلع على كتب التراث التي بين أيدينا لوجدنا أنها مليئة بالأفكار والآراء والإبداعات الشعرية والنثرية التي قد تغضب رقباء اليوم على اختلاف أنواعهم». وتساءل عما إذا كان هذا سيدفعنا إلى إلغاء أو محو ثلثي تراثنا العربي الإسلامي؟

ويكشف طاهر رياض عن تجربته الشخصية التي مرّ بها مؤخراً حينما اعترضت الرقابة الأردنية على ديوانه الأخير «ينطق عن الهوى»، وعندما ناقش أكثر من موظف إلى مدير الرقابة محاولاً أن يوضح لهم السمة المجازية للنص الشعري، وأنه لم يضع كتاباً في اللاهوت أو في الفقه أو في الدين، لم يقتنعوا وحوّلوا الكتاب إلى وزارة الأوقاف، الأمر الذي لم يفهمه بالنظر لكونه كتاباً في الشعر لا ينبغي الحكم عليه إلاّ من قبل شاعر متفتح ومنفتح وحقيقي، وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن الراحل الكبير محمود درويش قدّم لهذا الكتاب. بعد هذا الحوار أعيدت نسخ الديوان من جمرك عمّان إلى بيروت حيث تمت طباعتها. والمفارقة أن الشاعر قدّم نسخاً للرقابة السورية للسماح بدخول الكتاب من بيروت، أجيز الكتاب خلال يومين.

ويستكمل الروائي إلياس فركوح وجهة النظر هذه بالإشارة إلى أن النص الأدبي والفني هو نص إبداعي يتحرك في مناخات لا تجوز فيها الفتاوى والفتاوى الدينية على وجه الخصوص، «فالنص الأدبي، والعميق منه تحديداً» يحتمل مجموعة من التفسيرات والتأويلات بحيث يتفلت دائماً من الدخول في إطار مفهومي واحد». ويتساءل عن كيفية «الركون إلى فتوى اعتمدت تأويلاً واحداً معتبرة إياه هو الأدق وبالتالي حرّمت أو حللت».

الباحث في مجال حقوق الإنسان رياض الصبح، ينطلق في تحليل علاقة الإفتاء بالأدب من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، حول العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وغير ذلك من اتفاقيات صادق عليها الأردن، وهو يرى أن «من الممكن تأصيل هذه العلاقة بأن الإبداع الأدبي تكفله طائفة من الحقوق وأهمها الحق في الإبداع العلمي وحرية الرأي والتعبير».

ويضيف الصبح أن كل عمل ينطلق من سلطة تقيد عمل المبدع بما فيها سلطة رجال الدين عمل ينافي ممارسة الحق الطبيعي للإنسان في الإبداع، فمن حق المبدع أن ينتقد ويحلل كيفما شاء بعيدا عن الإساءة الشخصية المباشرة والتي تشمل السب والتحقير والتدخل بالخصوصيات، وأن من حق رجال الدين إبداء الرأي والحوار وتفنيد أقوال الأدباء والمفكرين بالوسائل السلمية والحضارية عبر الوسائل التعبيرية المتاحة.

فتاوى تكفير المبدعين والمثقفين لم تمر بسهولة أمام حالات التضامن مع ضحايا التكفير من المبدعين، والتي قادها كتاب ومثقفون ومبدعون كبار، وربما كان هذا، من جهة، واستشراء حمى التكفير إلى درجة منفرة من جهة أخرى، جعلت بعض المشايخ المحسوبين على التيار التكفيري ينصحون بالتريث في إصدار فتاوى التكفير بحق الكتاب، فقد حذر عبد العزيز آل الشيخ، مفتي السعودية، من تكفير كتّاب المقالات الصحفية، معتبراً أن "التسرع بالتكفير مصيبة كبرى فربما الكاتب أطلق كلماته عن جهل أو ضلال بسبب تأويل أو إنسان يثق به وتبين أن الأمر خلاف ذلك"، لكنه عاد واستثنى "من كانت مقالاته ناتجة عن اعتقاد باطل ومن قصد سيء ومن مراد خاطئ."

**

غيلان الدمشقي أول ضحاياها: فتاوى تدّعي الاستقواء بالدين ضد إبداع بلا ضفاف
 
23-Oct-2008
 
العدد 48