العدد 48 - أردني
 

خالد أبو الخير

"إن لم يكن قد ذكر تحريم الدخان التتن في القرآن فهو حرام ما دام كرهه السلطان أمير المؤمنين". هذا ما أفتى به العلامة قاضي زاده، تقرباً من السلطان العثماني مراد الرابع 1612-1640، ومداهنة له، هو الذي حرم التدخين العام 1633 وفرض عقوبات صارمة على متعاطيه وصلت حد الإعدام.

بعد ذلك بثلاثة عشر عاما، كان السلطان مراد الرابع خلالها قد رحل وخلفه السلطان محمد الرابع، أصدر شيخ الإسلام محمد بهائي أفندي فتوى تبيح استخدام التبغ، تقرباً من السلطان الجديد ومداهنة له فقد كان السلطان الجديد يعشق التدخين. فما هو حكم التدخين في الإسلام، حرام كما أفتى قاضي زاده؟ أم حلال كما أفتى محمد بهائي أفندي؟

تعرف الموسوعة الحرة "ويكيبيديا"، الفتوى في الإسلام بأنها "مرسوم ديني يقوم بإصداره علماء في الشريعة يتحلون بصفات معينة". ويحدد علي محيي الدين القره داغي - عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين هذه الصفات بأن يكون من يتصدى للإفتاء «فقيهاً عالماً بكتاب الله وسنة رسوله، وبأقوال العلماء؛ إجماعهم واختلافهم، وله ملكة فقهية قادرة على الاجتهاد».

وهو يفرق بين الفتوى والاجتهاد بقوله إن الاجتهاد هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الإجمالية، وأما الفتوى فهي بيان الحكم الشرعي لواقعة معينة جواباً عن السؤال عنها.

ويعتبر إصدار الفتوى في الإسلام أمراً عظيماً من حيث المسؤولية الملقاة على عاتق المفتي، إذ يرى البعض في من يصدر الفتوى بأنه شخص نصب نفسه حاكماً نيابة عن الذات الإلهية، مثل: الأمر بشيء أو النهي عنه، أو إطلاق مسميات مثل الحلال والحرام والمستحب والمكروه وغير ذلك على تصرفات أو ممارسات سائدة أو جديدة في مجتمع ما.

وعادة ما يتم إصدار الفتوى في غياب جواب واضح وصريح ومتفق عليه بين الغالبية العظمى من العلماء المختصين في الشأن الديني، في أمر من أمور الفقه الإسلامي، أو حول موضوع شائك له أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية.

ورغم أن الإسلام لم يحدد سلطة مركزية لإصدار الفتاوى، فإن هناك مؤسسات دينية مختصة بإصدار الفتاوى في كل دولة من الدول الإسلامية. ومع انتشار المد الديني وتحول الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى قوة تقود المعارضة في العالم العربي، بدأ ينظر إلى هذه المؤسسات الدينية بوصفها أدوات في يد السلطة، ومرجعهما في ذلك المفكر الإسلامي الراحل سيد قطب، الذي يعتبر الأب الشرعي للحركية الإسلامية.

وقد جردت كل هذه التطورات المؤسسات الدينية الرسمية من النفوذ الذي كانت تحظى به فيما مضى، وبدأ كثير من الأفراد المنتمين للحركات الدينية، سواء كانت هذه الحركات تعمل في المجال الديني أو السياسي أو الاجتماعي، يدلي بدلوه بإصدار فتاوى حول كل شيء تقريباً، حتى ولو كانت هذه الفتاوى تقف على طرف نقيض مع الفتاوى الصادرة عن المؤسسات الرسمية، وبخاصة وأن الفتوى لا تملك قوة الإلزام، وأن صدور فتوى معينة عن جهة ما لا يعني بالضرورة أن جميع المسلمين سوف يطبقون ما جاء فيها، ولا سيما في ظل فوضى الفتاوى التي اجتاحت العالم العربي والإسلامي، التي اختلط فيها ما هو صحيح بما هو غير ذلك، وتعددت جهات الإفتاء حتى خرجت عن إطار الحصر ما بين أفراد ومؤسسات رسمية وحركات سياسة ذات مرجعية دينية.

تاريخياً، بدأت الفتوى جماعية. هكذا كانت في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا لم يجد في القضية كتاباً ولا سنة ولا قضاء من أبي بكر، دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.‏

وتعد فتوى عمر بن الخطاب، بالاتفاق مع الصحابة على تعطيل حد السرقة في عام الرمادة، واحدة من الفتاوى المهمة في عصره، فهو اجتهد في نص صريح، وهو أمر كرره في فتواه الأخرى بوقف منح الزكاة للمؤلفة قلوبهم.

وقد حرص عمر على أن يكون هذا المنهج الجماعي في الاجتهاد هو الأسلوب الذي ينبغي أن يسير عليه ولاة الأمور في الأقاليم، فقد كان يوصي ولاته باتباع هذا الأسلوب، ومن ذلك ما قاله لشريح: «أنظر في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله، وما لم يتبين لك في السنة، فاجتهد فيه رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح».

بعد عصر الصحابة، وبعض عصور الدولة الأموية، انتشر الاجتهاد الفردي، حيث كان كل مجتهد يستقل برأيه وفهمه في اجتهاده، وساعد على هذا تفرّق المجتهدين في الأقطار العديدة بعد اتساع رقعة الدولة، ما يصعب معه اجتماعهم وتشاورهم.

ويرى الشيخ عبد الوهاب خــلاف أنه «بعد عهد الصحابة، وفيما عدا فترة في الدولة الأموية بالأندلس، لم ينعقد إجماع، ولم يتحقق إجماع من أكثر المجتهدين لأجل التشريع، ولم يصدر التشريع عن الجماعة، بل استقل كل فرد من المجتهدين باجتهاده في بلده وفي بيئته، وكان التشـريـع فرديـاً لا شورياً، وقد تتوافق الآراء وقد تتناقض، وأقصى ما يستطيع الفقيه أن يقوله: «لا يُعلم في حكم هذه الواقعة خلاف».

ويلفت خلاف إلى أن السبب الذي جعل العلماء بعد عصر الصحابة غير حريصين على استعمال الاجتهاد الجماعي كثيراً، هو «تخوف العلماء من هيمنة الساسة على مجامع أو مجالس الاجتهاد الجماعي، حيث إن السلطة بعد الخلافة الراشدة، قد آلت إلى ملوك وأمـراء بعضهم لا يتورع عن بسط هيمنته على المجالس الاجتهادية، وتوجيهها إلى ما يخدم سياسته، وليس ما يخدم شرع الله ويحقق مصالح الأمة».

شهد القرن الرابع الهجري واحداً من أخطر التحولات في الفكر الإسلامي، فقد أغلق العلماء من أتباع المذاهب الأربعة السنية باب الاجتهاد، فيما بقي الاجتهاد مفتوحاً بالنسبة للمذهب الشيعي.

وقد علّل علماء السنة إغلاق باب الاجتهاد، كما يقول خلاف، «حتى لا يوجد من يستغل دعوى الاجتهاد، لبث البدع والسموم الفكرية، وإفساد قواعد الشريعة، وليوصدوا الباب أمام من ليس أهلاً للاجتهاد والنظر، ويقطعوا الطريق على الفرق والمذاهب المنحرفة، ويحموا الأمة من الانقسام الديني».

مع إغلاق باب الاجتهاد، انتشرت الفتاوى الفردية في صورة كبيرة، وأصبحت تدخل في أبواب التثقيف الديني الأخرى مثل الوعظ وخطب الجمعة.

أمام هذه الفوضى التي استشرت في المجتمعات العربية والإسلامية، بدأت محاولات لإحياء الاجتهاد الجماعي تمخضت عن قيام ثلاثة مجامع فقهية: مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، الذي أنشئ سنة 1969م، والمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1393هـ، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة سنة 1981م. ولكن لم يمض وقت طويل حتى عادت الفتاوى وتراجع دور المجمعات الفقهية لصالح أفراد لا يعرف أحد مدى أهليتهم لإصدار الفتاوى، وبعضهم مرتبط بمؤسسات أو حركات أو أحزاب سياسية، وبعضهم يعمل لحسابه الخاص، مع الانتشار الهائل لوسائل الاتصال من إذاعات وفضائيات وشبكة للإنترنت وهواتف نقالة وغير ذلك من وسائل اتصال.

**

الإفتاء في المذهب الشيعي

في المذهب الشيعي، هناك ما يسمى «المقلد»، فبحسب المذهب الجعفري الذي تعتنقه الشيعة الإثنا عشرية، المكلف (الشخص) غير قادر على استنباط الأحكام الشرعية بنفسه، وعليه لذلك، أن يبحث عن مرجع تقليد حي يعتقد بأعلميته، يرجع إليه في الأحكام الشرعية والاستفتاءات. ومن شروط التقليد أنه واجب وليس اختياريا، أي أنه لا تصح العبادات، أو الأحكام الشرعية، دون تقليد، إذا كان الشخص غير قادر استنباط الأحكام الشرعية بنفسه، كأن يتعبد بحسب الموروث، أو يقيم الحكم الشرعي بناءً على خبرته، على سبيل المثال، حتى وإن تصادفت صحته مع الحكم الشرعي عند المرجع الأعلم الحي.

ويقلد المرجع في الأمور الفقهية، وليس هناك تقليد في الأمور العقائدية أو أصول الدين، فالمطلوب من أي شيعي أن يتحرى عن عقائده بنفسه حتى يتيقن منها ولا يقلد شخصا أو مرجعا فيها. أما العودة للمرجعية في الأمور السياسية، فهو مختلف فيه، فالبعض يؤمن بولاية الفقيه الشاملة لكل شؤون الحياة، بينما يرى البعض أن الأمور السياسية والمواقف السياسية متروكة لتقدير الشخص، بحسب ظروف الزمان والمكان شرط ألا تخالف الشرع أو العقيدة.

ويذكر موقع المرجع الشيعي السيستاني، أن لجنة الاستفتاء هي نقطة الارتباط بينه وبين الأمة، فالمسائل المستحدثة والاستفسارات العقائدية والتربوية والاجتماعية وغيرها تحتاج الى معرفة فتواه ورأيه، فلجنة الاستفتاء تتولى عملية الإجابة طبق فتاواه وآرائه ومبانيه. ويذكر أن أساس الإجابة هو محاولة استخراج الفتوى من كتب المرجع أو من الاستفتاءات السابقة، فإن لم يستقر الرأي على كونه هو الجواب الصحيح، فإن اللجنة ترسل السؤال إليه في إقامته في النجف. ثم يذكر أن هذه اللجنة ربما لا تجيب عن بعض الأسئلة، لأنها ترتبط بالأشخاص، أو لا تجيب لتفاهة السؤال أو لمحاذير أخرى تحددها هذه اللجنة.

الفتاوى: بدأت جماعية في عهد الرسول وانتهت فردية على الفضائيات
 
23-Oct-2008
 
العدد 48