العدد 48 - أردني
 

نهاد الجريري ومحمود منير

«التعليم العالي يلفظ أنفاسه الأخيرة!». بهذه العبارة الحاسمة اختار المؤرخ والمفكر محمد عدنان البخيت، أن يختم يومين من التكريم أقامته مطلع الأسبوع مؤسسة عبد الحميد شومان ضمن برنامج ضيف العام. البخيت بهذا الكلام تعدى دائرة الانتقاد مهما كان صارما وشديدا، وتجاوزه إلى دق ناقوس الخطر معلنا أن الحالة الأكاديمية في الأردن باتت على أعتاب «نقطة اللاعودة»، كما وصفها مقال لمحمد خروب في «الرأي».

البخيت، العارف بشؤون التعليم العالي، أسس مركز المخطوطات الريادي في الجامعة الأردنية، وترأس جامعة مؤتة وأسس جامعة آل البيت، أطلق نُذره هذه لتطاول التعليم الحكومي والخاص على حد سواء. ومع تأكيده معارضته الدائمة للتعليم الخاص الذي اعتبره «خطرا»، فقد استدرك بالقول إن الخطر يكمن في «عدم وجود كفاءة مؤهلة من الأكاديميين». الافتقار إلى الكفاءة حسب البخيت لا يقتصر على الكادر التدريسي في الجامعات، إنما يتعداه إلى مجالس أمنائها، وهو ما اتضح من حديثه عن «عدم أهلية هذه المجالس»، لكون بعضها تتشكل على أساس رابطة الدم والقرابة لا على أساس الكفاءة.

البخيت، لا شك، كان منصفا في تحميل مسؤولية انحدار التعليم العالي إلى القطاعين العام والخاص، بعد أن ظل التعليم الخاص وحده الملوم على ما آل اليه التعليم، لاعتماده الربحية والاستثمار هدفاً له. فالتشريع الذي تم بموجبه منح «الترخيص» لإنشاء الجامعات الخاصة أطلق يد المستثمرين في هذه الجامعات، إذ أشار إلى ضرورة أن تكون الجهة المالكة للجامعة شركة أو مؤسسة خاصة مسجلة لدى وزارة الصناعة والتجارة؛ وهو ما يعني ضمناً أن تكون شركة ربحية. لاحقاً، وبموجب قانون إنشاء الجامعات الخاصة 43 للعام 2001، عزّزه قرار من مجلس التعليم العالي في العام 2004، صار التوجه إلى أن تكون الجهة المالكة للجامعة الخاصة مؤسسة غير ربحية يُمكنها التعاون مع شركة استثمارية. لكن المفارقة هنا أن «بعض أعضاء الشركة الربحية كانوا هم أنفسهم أعضاء في المؤسسة غير الربحية يُحصّلون الربح على أساس بدل أتعاب»، بحسب ما يشير إليه أكاديمي ووزير سابق ترأس جامعة خاصة في وقت سابق.

إلى ذلك ومنذ العام 2003، بدأت الجامعات الرسمية بتحقيق أرباح في ميزانياتها من خلال برامج التعليم الإضافية المختلفة: الموازي والمسائي والدولي. فقدحققت الجامعة الأردنية فائضاً في ميزانيتها لعام 2003 قدر بنحو ثمانية ملايين ومائتي ألف دينار، وفقاً لتقرير أصدرته الحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة «ذبحتونا» العام 2007. هكذا بات لدينا في الأردن «جامعات افتراضية في قلب الرسمية»، بحسب عنوان ورد في «ے» العدد 45 خُصص لمناقشة قضايا التعليم العالي الخاص.

«ے» اتصلت بالدائرة المالية في الجامعة الأردنية للتأكد من صحة هذا الرقم، لكنّ موظفاً في الدائرة أشار إلى ضرورة الحصول على الضوء الأخضر من مكتب الرئيس أولاً. وعلى مدى يومين، واظبت «ے» على الاتصال بمكتب الرئيس للحصول على الضوء الأخضر، لكنها لم تحصل على إجابة.

وفي التشريع فإن سياسة الاعتماد اقتصرت على البنى التحتية لمؤسسات التعليم العالي الخاصة، دون التطرق إلى صلب العملية التعليمية من كفاءة مدرسين ومستوى خريجين.

ورغم أن القانون الجديد رقم 20/2007، الذي يحكم سياسة الاعتماد الحالية ينص على «تقييم مؤسسات التعليم العالي وجودة برامجها ومخرجاتها الأكاديمية والمهنية»، من دون أن يفرق بين جامعة أهلية أو حكومية، فإن تطبيق آليات الاعتماد على الجامعات الحكومية ما زال خجولا.

كلمات البخيت تنذر بأن الوقت لم يعد إلى جانب الحياة الأكاديمية في الأردن، بل صار قاب قوسين أو أدنى من النفاد. آراء البخيت أثارت نقاشاً واسعاً في أوساط أكاديمية بين مؤيد ومعارض ومستهجن، بحسب ما نشرت صحيفة «الغد» في تحقيق ينبئ بفتح حوار وطني حول مستقبل الجامعات الأردنية.

إلى انشغاله بالتدريس وبوضع التعليم الجامعي، نذر المؤرخ والمفكر البخيت؛ حياته لتوثيق تاريخ الأردن وفلسطين ومدن الشام، فجمع المخطوطات ووثائق البلديات ودوّن التاريخ الشفهي ورسم الوجوه والنقوش ووثائق المحاكم الشرعية، ونجح في تدريب مجموعة كبيرة من باحثين يواصلون الدرب في الجامعات الأردنية.

الندوة التكريمية التي أقامتها مؤسسة شومان تحت عنوان «»البخيت مؤرخاً وموثقاً وأستاذاً ومؤسساً» شارك فيها 28 أكاديمياً وباحثاً، تزامنت مع نشر عدد من كتّاب الرأي في الصحف مقالات تحتفي بجهوده.

البخيت وضع يده على قضايا هامة وحساسة في جلسة النقاش، موجهاً النقد الشديد إلى الحالة الأكاديمية الأردنية. واخترق حاجز الصمت لدى المؤرخين الأردنيين بما يخص أحداث أيلول العام 1970، لافتاً إلى قيامه بدراسة وثائق الحركة الفدائية في الأردن «بصورة علمية وموضوعية»، من خلال المواد المتوفرة لدى الأجهزة الرسمية الأردنية.

بعض المشاركين في الندوة ركز على اهتمام البخيت المبكر والمتواصل بجمع الوثائق وتوفيرها للباحثين المعنيين سواء من خلال مركز الوثائق والمخطوطات الذي أسسه في الجامعة الأردنية في 1972، وما زال يديره، أو من خلال تبنيه وإشرافه على نشر الوثائق، التي تعكس صورة واضحة عن تاريخ الأردن.

مشاركون في الندوة اعتبروه رائدا للمدرسة التجديدية في كتابة تاريخ المشرق العربي، انطلاقاً من فترة المماليك حتى مطلع القرن العشرين، إضافة إلى مساهمته في تعميق ثقافة الأكاديميين من أساتذة التاريخ في هذه الجامعات في مرحلة مفصلية بالغة الخطورة.

تصدر دور البخيت، الحائز على وسام الحسين للعطاء المميز من الدرجة الأولى، في الفعل الثقافي محاور أوراق أخرى عبر الإشارة إلى مشروعه الذي تمثله بمقولة: "خلاص الأمة ودخولها - فاعلة لا منفعلة - بوتقة العصر يتم عن طريق الإبداع، الإبداع الفردي والإبداع الجماعي، وأن الجامعات أو الفعل الثقافي الجاد في الجامعات يمكن أن يسهم - متضافراً مع الأنساق الأخرى - في تمكين الأجيال الجديدة من الوصول إلى نتائج يمكن أن تعد بمثابة الإضافة الجادة لمسار الثقافة العربية والإسلامية ولمسار الفكر الإنساني المعاصر"

في مسيرته الغنية أنجز المؤرخ زهاء مائة وخمسين بحثاً وكتاباً.

البخيت أعرب في جلسة النقاش عن تشاؤمه حيال المستقبل المنظور: "أخاف على المستقبل.إسرائيل الآن أخطر مما كانت عليه في الماضي. لا قيمة لنا في غياب القدس".

**

ضيف العام

انتهجت مؤسسة عبد الحميد شومان هذا البرنامج منذ العام 1997. ويرمي البرنامج إلى تكريم الرواد في مجالات مختلفة، ممن لهم إسهامات وبصمات بارزة في المجالات الفكرية والأدبية والعلمية والثقافية، وذلك بإقامة ندوات يشارك فيها أساتذة وباحثون ممن لهم صلة أو اهتمام بفكر ونتاج الشخصية موضع التكريم.

ضمن هذا البرنامج كرّمت المؤسسة على التوالى كلاً من: إحسان عباس، عبدالعزيز الدوري، ناصر الدين الأسد، محمود السمرة، وضيف هذا العام محمد عدنان البخيت.

أبدى تشاؤماً حيال مستقبل الأمة: عدنان البخيت ينعى التعليم العالي في الأردن
 
23-Oct-2008
 
العدد 48