العدد 48 - أردني
 

جعفر العقيلي

استشرت ظاهرة "فوضى الفتاوى" في غير بلد عربي، في السنوات القليلة الأخيرة. لحسن الطالع والتدبير تبدو الظاهرة محدودة الأثر والتأثير هنا في الأردن.

قسطٌ كبير من المسؤولية في هذه "الفوضى" تتحمّله كثرة المرجعيات الدينية وتعددها في هذا البلد أو ذاك، فيما تكاد دائرة الإفتاء العامة عندنا تتولّى هذه المهمّة وحدها.

المتتبع لردود الفعل الشعبية عندنا في الأردن تجاه بعض الفتاوى الصادرة عن أطراف عربية وإسلامية، يجد أنها تتسم بـ"الرفض" و"عدم التقبّل"، ويذهب بعضها إلى التندر أحياناً من تلك فتاوى تبدو "شاذة" و"غير منطقية" في غير وجهٍ من وجوهها.

الأردنيون يمثّلون طرفاً متلقّياً سلبياً أكثر من سواهم في مجتمعات أخرى لفتاوى كهذه. قطاعات اجتماعية عريضة في مصر والعراق ودول في الخليج العربي، تكاد تشكل الرافد الرئيسي لـ"سوق الفتاوى"، ما يسهم في رواج هذه "السوق" وتنشيطها وفق مبدأ العرض والطلب. يكفي أن ينقّل المرء بصره بين القنوات الفضائية التي تستهدف الجمهور العربي المتعلم وغير المتعلم، ليكتشف أن قنوات "دينية" أو ترتدي لبوس "الدينية" تتكاثر وتستقطب مشاهدين، في منافسة حادة مع قنوات ترفيهية لطالما استأثرت بالجمهور وحدها.

تدرك تلك القنوات أن تحقيق الربح يتطلب نسبة مشاهدة عالية. وهي تعزف على "وتر" رغبات المشاهدين، في استقبال اتصالاتهم الهاتفية ورسائلهم عبر الموبايل (sms) التي تتضمن أسئلة في العبادات والمعاملات والعقيدة، ليجيب عنها "شيوخ" و"مفتون" و"علماء".

شريط الرسائل في العديد من هذه القنوات، مخصص للفتاوى على مدار الساعة، ما يحقق أمرَين، ويكشف عن أمرَين أيضاً. يحقق ربحاً لهذه القنوات وديمومةً لوجودها. ويكشف عن "تعطّشٍ" لا بد من درْسه، للوقوع على أجوبةٍ عن أسئلة بديهية، يبدو طارحُها خارجَ عصره، أو أقلّه رافضاً للانخراط فيه. وإلا، ما الذي يمكن قوله مثلاً حيال سؤال يتردد على شريط الرسائل عشرات المرات يرد فيه: "ما حكم ارتداء الملابس البيضاء؟".

الأمر الثاني الذي يكشف عنه هذا الشريط، هو تراجعٌ خطير في الوعي، يؤشر على أن مجتمعاتنا عموماً ما زالت في مجاهيل التخلّف، وتدير ظهرَها لما قدّمه روّاد النهضة فيها من إسهامات قبل عقود. وهي إسهامات تُظهر إلى أي مدى كان محمد عبده "ثورياً" وتنويرياً، وداعيةًَ إلى إصلاح المجتمع وتجديده، إذا ما قورن بـ"مشايخ" تتالوا وتكاثروا بعد عصره، وما زالوا بين ظهرانينا، يُطلق بعضهم فتاواه دون تغليبٍ لنزعةٍ عقلانية ولمقاصد الدين عند تفسير آيات القرآن الكريم، ودون نظرةٍ متأنية للأمور، حتى بلغ الأمر أن تتصدر فتاواهم "الطريفة" نشرات الأخبار على شاشات التلفزة العالمية، تندّراً بها.

يعاد هنا طرح السؤال الذي لا يغيب: كيف نقنع الآخر بنا، إذا كان الذين يتصدّرون الواجهة على أنهم "علماؤنا"، على هذا المستوى من "العلم"؟ هذا ما يرِدُ على ذهن المرء فوراً وهو يتلقى خبر الفتوى الخاصة بقتل "ميكي ماوس"، الشخصية الكرتونية الشهيرة، وقبله خبر فتوى جواز أن يرضع الموظف من زميلته كي تصبح محرّمة عليه، وسواهما من "فتاوى" أصبحت جزءاً من سجل التاريخ، قد يصعب محوه.

يتصل بما تقدّم استهداف كتّاب ومفكّرين وفنانين، وممارسة رقابة على نتاجهم الإبداعي، وإصدار فتاوى بحقهم. وقد ذهب بعضها إلى حد "تكفيرهم"، ما أدى إلى ملاحقة مبدعين وسجنهم وفرض الغرامة عليهم وفصلهم من وظائفهم، بعد أن انتدب بعض رجال الدين انفسهم لمهمة "النقد الأدبي".

يحفل التاريخ بشواهد كثيرة على هذا الاستهداف، شهده غيرُ بلد في غير زمن. من السهولة بمكان في بلدٍ عريق مثل مصر، التوجّه إلى المحكمة لتسجيل قضية ورفع دعوى وفقاً لقانون "الحسبة" ضد كاتب أو مفكر أو فنان. وهي ظاهرة احترفها بعضُهم حدَّ أنها منحته مجداً وشهرةً لم يكن لينالهما لو امتهن مهنة غيرها.

البحث عن الأضواء على حساب المقصد الشرعي المتوخى من الفتوى، سمةٌ رئيسية في لجوء بعضهم إلى إصدار فتاوى ذات صبغة جدلية، تحظى برواج كبير عبر وسائل الإعلام. لو كانت تلك الفتاوى تنطلق من ثقافة دينية معتدلة ربما ما كانت ستلقى هذا الرواج.

يصدر هذا العدد والشاعر الأردني الشاب إسلام سمحان موقوف على قيد التحقيق، بعد أن أُسندت إليه تهمتا "الإساءة للدين الإسلامي، وإهانة الشعور الديني" على خلفية ما جاء في ديوانه الصادر أخيراً. وكان مفتي المملكة الشيخ نوح القضاة اعتبر أن "الكاتب كافر ومعادٍ للدين". وهو ما يستوجب السؤال: هل يمكن للمفتي –أيّ مُفْتٍ، مع كل الاحترام والتوقير لموقعه وشخصه- أن يمارس رقابة على سلطة العقل والإبداع؟ يشار هنا إلى موقف تنويري نادر اتخذه مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، جاء فيه أن على رجال الدين الحذرَ من الاندفاع إلى تكفير كتّاب واعتبارهم مرتدّين.

بلد عربي آخر ذو عمق حضاري هو العراق يشهد بعد الاحتلال الأميركي، رواجاً لنمطٍ من الفتاوى يتراشقها فرقاء في العملية السياسية، يغلب على معظمها سمة «التكفير» للآخر وجواز قتله. هذه الفتاوى السياسية هي أسلحةٌ «فتاكة» في أيدي مُطلقيها. وهي وراء كثير من العمليات «الانتحارية» التي يكاد لا يمر يوم دون وقوع إحداها هنا أو هناك، وخلال ذلك تتقطّع أوصال جسد البلد الواحد، ويتمزق نسيجه الاجتماعي. طرْدُ آلاف العوائل المسيحية من «الموصل» أحد تجليات نتائج هذه الفتاوى الإقصائية، التي لا تنظر للآخر أكثر من كونه غريماً، ودون إيلاء عناية لكونه شقيقاً في الوطن، وشريكاً في التاريخ والحاضر والمستقبل.

دائرة الإفتاء العامة في الأردن تحظى بقبول عام، نظراً لاعتدالها، وعدم انغماسها في إصدار فتاوى حول كل صغيرة وكبيرة، وكل شاردة وواردة في شؤون الحياة. الدائرة تجيب عن أسئلة المواطنين الواردة إليها عبر رسائل الخليوي في خدمة أضافتها أخيراً للتسهيل عليهم. وهي تستقبل الراغبين في الحصول على فتاوى خلال ساعات الدوام الرسمي، وتستقبل أسئلتهم شفاهةً وكتابةً. تتلقى الدائرة يومياً مئات الأسئلة وتجيب عنها فوراً.

نشط الإعلامُ تجاه دائرة الإفتاء أخيراً، في قضية «البورصات الأجنبية». فقد جرى «تحريم» الاستثمار في هذه البورصات (نظام الهامش). تناغمَ ذلك مع توجُّه حكومي لـ»فرملة» اندفاعة الناس في مختلف مناطق المملكة لاستثمار أموالهم في شركات البورصات الأجنبية، وذلك قبل أن تتكشف «وهمية» عدد من هذه الشركات واستغلالها المواطنين.

الدور الذي تؤديه الدائرة، يغطي مسائل العبادات والمعاملات والمواريث، ويبدو في إطاره المتوقَّع. لا تناقش الدائرة مسائل ذات صلة بالسياسي أو الأمني أو الاقتصادي عموماً. حتى إنها تعزف عن الإجابة عن أسئلة عامة، أو تتعلق بقضايا عامة تمسّ الأمن الاقتصادي مثلاً، عبر الهاتف. الدائرة تتقصى وتطلب التفاصيل من السائل أو طالب الفتوى، وتتحرى السرية واحترام خصوصيته عند قدومه إليها التماساً لفتوى.

لكن حال الإفتاء عموماً تقتضي مراجعة، في ظل عدم إحاطة الفتاوى بالمتغيرات الهائلة في عالمنا. متغيراتٌ استفاد منها تجار ومستثمرون رأوا في الاشتغال بالإفتاء ضالّتهم، فأنشأوا القنوات الفضائية، أو أطلقوا مواقع الإنترنت، موظّفين لديهم خريجي الشريعة، وبعضاً ممن لديهم بعض إلمام بمسائل الدين، للرد على الأسئلة المتدفقة عليهم عبر رسائل مدفوعة الأجر. ظل أمْرُ مُجاراة هذه المتغيرات والتعاطي مع إفرازاتها بما تتطلبه من تفهُّم، ضعيفاً. وربما أن تحديث الفقه لا يجري بالوتيرة المأمولة في عصرٍ حافل بالمتغيرات.

الإفتاء في الأردن لا ينغمس في كل شاردة وواردة: تعددية المرجعيات وتديين السياسة يدفع نحو “فوضى الفتاوى”
 
23-Oct-2008
 
العدد 48