العدد 48 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري أن يُوصفَ بأنه حدث تاريخي، توقيع وزيري خارجية سورية ولبنان وليد المعلم وفوزي صلوخ في دمشق في 15 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، على بيان مشترك يؤذن ببدء سريان علاقات دبلوماسية بين بلديهما، فذلك وصف في محلّه إلى حد كبير، ولا ينتسب إلى الرطانة الإنشائية. ليس فقط لأنها المرة الأولى التي ستنشأ فيها سفارتان في العاصمتين قريباً منذ إعلان لبنان استقلاله في 1943، بل لأن العلاقات بين البلدين الجارين، التوأمين ربما، ستأخذ الطابع المؤسساتي الدارج بين أي بلدين تربطهما علاقات طبيعية، قوية كانت هذه العلاقات أو ضعيفة، متجاوريْن أو متباعديْن، كما أن هذا الأمر سيؤكد ما ليس مؤكداً بعد، لدى قطاع غير هيّن بين اللبنانيين بشأن اعتراف جارتهم بسيادة بلدهم واستقلاله، وإن أطنب المسؤولون السوريون في تأكيد هذا الأمر، وأعلنه الرئيس بشار الأسد غير مرّة، وعبر عنه أحياناً حافظ الأسد الذي عرف عهدُه المسارَ الأكثر التباساً وتشوشاً، في تعاطى دمشق مع لبنان واللبنانيين وشؤونهم. نصّ بيان صلوخ والمعلم على «تأكيد الجانبين من جديد حرصهما على توطيد وتعزيز العلاقات السورية اللبنانية، على أساس الاحترام المتبادل لسيادة واستقلال كل منهما، والحفاظ على العلاقات الأخوية المميزة بين البلدين الشقيقين، بما يلبي آمال وتطلعات الشعبين الشقيقين». وليس ما هو أكثر من ذلك ما طالب ويطالب به فريق واسع من اللبنانيين بشأن العلاقة مع سورية، وهو الفريق الذي يتكتل حالياً في تجمع «14 آذار» الذي تتألف منه الغالبية النيابية الحالية. وإذ يعقّب الفريق اللبناني الآخر في تكتل «8 آذار»، (وهو تاريخ مسيرة شكر مشهورة لسورية بعد انسحاب جيشها من لبنان) بأنه ما عارض يوماً إقامة علاقات دبلوماسية ووجود سفراء، وأن ممثليه في اجتماعات الحوار الوطني برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري في ربيع 2006 دعموا هذا التوجه وساندوه، إذ يعقب هذا الفريق بذلك، فإن المتابع لمسار العلاقات «الخاصة والمتميزة» بين البلدين لم يلحظ في أي محطة أو مرحلة أن حزب الله أو حركة أمل كان لهم صوت عال ومسموع في انتقاد سوء الأداء السوري السياسي والأمني في لبنان، أو تدخله المكشوف في تفاصيل غير قليلة، ولم يكن تبادل سفراء بين دمشق وبيروت من أولويات مطالب جهر بها الحزب والحركة المذكوران. وإذ يرحب قبل أيام نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بالبيان السوري اللبناني، ويقول إن إقامة العلاقات الدبلوماسية «لمصلحة البلدين»، فإن أرشيف الرجل وزملاءه يخلو من الحرص على هذه «المصلحة»، طوال سنوات ظل مطلب تبادل السفراء مهجوساً به من قطاع عريض من اللبنانيين، والسوريين أيضاً. في محاولة للتهوين من «تاريخية» الواقعة المستجدة، والتخفيف من أهميتها، مضى كتابُ ومعلقون لبنانيون وسوريون، ومنهم البعثي العتيق معن بشور مثلاً، إلى استعراض وقائع ومحطات في التاريخين القريب والبعيد، تدلل على أن سورية، البعثية وما قبل البعثية، ما أنكرت يوماً استقلال لبنان وسيادته. ولا أحد في وسعه الجدال في ذلك، لكن المسألة أبداً لم تكن هنا، بل في الكيفية التي هيمنت على الأداء السياسي والأمني السوري الرسمي تجاه لبنان واللبنانيين، الأمر الذي لا صلة له أبداً في تقديم رئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري في مؤتمر الإسكندرية لمباحثات تأسيس جامعة الدول العربية في 1943 مذكرة رسمية يعترف فيها باستقلال لبنان بحدوده الحالية. ولا صلة له بتوقيع رئيس وزراء سورية في 1944 جميل مردم على وثيقة تأسيس الجامعة، وإعلانه اعتراف بلاده باستقلال لبنان، ومطالبته الدول العربية المستقلة بالاعتراف بهذا الاستقلال. تلك الكيفية المعلومة التفاصيل، التي طالما تعاطت مع لبنان باعتباره فضاء سورية خاصاً، بسبب ضعف كيانيته ودولته، لا تزيحها عن الحقائق المؤكدة أن الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي زار رسميا لبنان في 1949، وأن حافظ الأسد زار شتورا والتقى فيها الرئيس سليمان فرنجية عشية اندلاع الحرب الأهلية في نيسان/أبريل 1976، وأن الرئيس بشار الأسد زار بيروت وقصر بعبدا في 2003 بكامل المقتضيات البروتوكولية التي تؤكد احترام مؤسسات الدولة اللبنانية. وفي السياق نفسه يمكن الإشارة إلى أن معاهدة الأخوة والتنسيق المشترك بين الدولتين المصادق عليها في 1991 كانت بشكل أو آخر تدليلاً على اعتراف متبادل، طالما أن عشرات اتفاقيات التعاون في مجالات خدماتية واقتصادية وتبادلية وأمنية تم توقيعها بين حكومتين. في أرشيف العلاقات السورية اللبنانية الملتبسة، وقائع تؤكد سعي دمشق تحديداً إلى تنظيم سياق هذه العلاقات في مؤسسات وهيئات ولجان خاصة، وأهمها «المجلس الأعلى السوري اللبناني» الذي يقول خبراء إنه غير دستوري. وتتوافر هذه التشكيلات بالتأكيد على اعتراف سوري بالكيان اللبناني، غير أن تبني إقامة السفارات الذي تعتبره اتفاقية دولية، هي اتفاقية فيينا، الإطار المكتمل لاعتراف سياسي متبادل بين الدول، ظل خياراً مرفوضاً من جانب دمشق في مراحل سابقة، وغير محبذ لاحقاً، ومقبولاً ربما على شيء من المضض حالياً. وفي أثناء العبور إلى هذه «التحولات» أشاعت دمشق منذ أكثر من عامين أن تبادل السفراء في دمشق وبيروت، أمر لا يمكن أن يقوم في أجواء من الشحن والتوتر. وكان هذا الخطاب ملحوظاً في تصريحات سورية غير قليلة، سبقت التحسن المطرد في العلاقات بين دمشق وباريس في عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهو المسار الذي توجته زيارة الأخير إلى دمشق في آب/أغسطس الماضي، وظلت المطالبات الفرنسية في أثنائه باتجاه إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع بيروت ضاغطة وقوية. عليه لا يمكن القول إن المرسوم الرئاسي السوري في هذا الشأن في 14 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، والإعلان الخاص بإقامة هذه العلاقات في أثناء زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان دمشق في 13 آب/أغسطس الماضي، أن هذين الإقرارين السوريين كانا بعيدين عن ضغوط وتأثيرات خارجية، فرنسية وأميركية ودولية... وعربية. وما كان لهذه كلها أن تتزايد، لولا مفاعيل لبنانية داخلية كان لها وقعها الفاعل، مهما حاول حلفاء دمشق تهوينها، وتسخيفها أحياناً. وأعقبت كما هو معلوم اغتيال رفيق الحريري، الحدث الذي كان نبيه بري على صواب حين وصفه بأنه «زلزال سياسي». البادي أن من نتائج هذا الزلزال وجود سفير لبناني في دمشق وآخر سوري في بيروت بعد أسابيع، وبانتظار وصولهما، تبدو تلميحات من سبق التأشير إليهم في محلها: نظرياً وعملياً، ممن يُؤثرون التبخيس من «تاريخيّة» التطور النوعي الجديد في مسار العلاقات السورية اللبنانية، إلاّ أن وجود السفارات في الدول لا يعني انتفاء تدخل دول في شؤون دول أخرى، أمنياً وسياسياً. ولا يخترع هؤلاء البارود حين يقولون هذا المعلوم، ففي بالهم أن التدخلات الفادحة التي كان يمارسها الجهاز الأمني والسياسي السوري في لبنان طوال نحو 30 عاماً لا ينتفي حدوثها، أو حدوث بعضها، بإقامة سفارة سورية، بل يمكن لهذه السفارة أن تكون منصة شرعية لنشاط من ذلك النوع. والتعقيب هنا على ذلك هو أن الآمال عريضة بأن يلتزم البلدان بما جاء في البيان الذي وقعه الوزيران صلوخ والمعلم، وبما يصدر من تصريحات للرئيس بشار الأسد عن «موقف سورية ورغبتها الدائمة في إقامة أفضل العلاقات مع لبنان الشقيق، وعلى الصعد كافة، وضرورة تذليل جميع العقبات التي تعترض مسيرة تطور العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين». لعل أكثر ما أضرّ بالمسيرة المذكورة هو ما كان من ممارسات فظة ومتحكمة تنزع أي سيادة أو استقلالية للقرار اللبناني، في سنوات وجود عسكري وأمني ثقيل وكبير في لبنان، حظي طويلاً بإسناد عربي، سعودي أساساً، وبرضا أميركي، وقبول فرنسي وأوروبي، بسبب مقايضات وتعقيدات غير قليلة، كان منها الوجود الفدائي والرسمي الفلسطيني في لبنان قبل 1982، وترتيب التوازنات والأحجام والأدوار بين الطوائف والزعامات، والمشاركة في حرب تحرير الكويت في 1990 التي كان من أثمانها طرد العماد ميشال عون إلى باريس. تغيرت الأحوال والوقائع، وغاب حافظ الأسد، وجرت مياه جديدة وفيرة، وعبر لبنان إلى تفاصيل أخرى، فكان مما نجم عن ذلك كله وهو كثير، أننا سنشهد، لأول مرة في التاريخ، سفيراً سورياً في بيروت وزميلاً لبنانياً له في دمشق. |
|
|||||||||||||