العدد 1 - ثقافي
 

تهدي جاكلين روز كتابها "المسألة الصهيونية" لإدوارد سعيد. ولكنها تستدرك قائلة في بداية الكتاب "إن إدوارد سعيد كان من المؤكد ألا يوافقها على كل ما جاء في كتابها هذا"، وهي محقة في حذرها هذا لأن إدوارد سعيد كان يتبنى وجهة نظر خاصة به تقوم على أن أرض فلسطين الصغيرة لا تتسع لشعبين وأن الحل الأمثل بالنسبة له هو "دولة واحدة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي".

في البداية تؤكد جاكلين روز أن "الصهيونية انبثقت من رغبات مشروعة لشعب مضطهد للحصول على وطن"، رافضة ما قاله توم بولين بوصفه إلغاء للتفكير والجدل حول الصهيونية. وفي المقابل تتبع روز خطين متوازيين حينا ومتداخلين أحيانا في الحركة الصهيونية؛ خط عدواني قتالي عنيف يمثله القادة الصهاينة السياسيون أسـاسا منذ شبتاي تسفي الحاخام التركي من أصـــل برتغالي، وحتى تيودور هرتزل، وبن غوريون، وحاييم وايزمن، وإسحق رابين في مرحلة من مـــراحل حياته، وخط آخر عقلاني إصـــلاحي كان ينتمي له نعوم تشومسكي في شبابه والذي كان يرى أن "اليهود في فلــــسطين يجب ألا يقيموا دولة مستقلة في فلسطين".

وتدرج روز في هذا الاتجاه عددا من المفكرين والمثقفين الصهاينة مثل آحاد هاعام ويهودا ماغنس ومارتن بوبــر الفيلسوف الصهيوني المعروف الذي اعتبر قـــيـام إسرائيل عام 1948 "نكبة" على اليهود، حتى تصل إلى يوري أفينيري والرافـــضين للخدمة العســـكرية في الجيــــش الإسرائيلي.

انطلاقا من هذه الفكرة تحاول روز إحياء الخط الواصل بين فكرة الرسالة الخلاصية بالمعنى الذي عرضته وبين الفكرة الصهيونية التي ترى أن من الممكن النظر إليها في صورتها الأكثر تبسيطا على أنها أول حركة خلاصية يهودية منذ شبتاي تسفي.

أما الصهيونية العلمانية فترى أن الرسالة الخلاصية "سلبية" و"انتظارية" لذا فإنها حاولت فصلها عن الصهيونية بدعوى أن الثورة الصهيونية العلمانية هدفت إلى إنزال الخلاص من السماء إلى الأرض. ولكنها مع ذلك تلاحظ أن لغة الصهيونية العلمانية تحمل آثار وندوب الرواية الخلاصية التي تكاد أن تبحث عنها أو تفشل في قمعها، فالصهيونية العلمانية والصهيونية الخلاصية تشتركان في أنهما تعتمدان على التوراة: فبالنسبة لأوائل الصهاينة العلمانيين بقيت التوراة هي النص التأسيسي فليس من الضروري أن تكون تلك كلمات الله حتى تحتفظ بقوتها لتشكيل الهوية القومية والفردية لليهود. ومن زاوية خاصة يمكن النظر إلى الصهيونية بوصفها النسخة العلمانية للخلاص اليهودي. "لأن الإيمان بالأرثوذكسية كان في انحدار طوال عصور التنوير، بحيث أصبحت الأمة هي الإله الجديد" (ص45)

هذان الخطان؛ الرسالي الخلاصي، أي الديني، والعلماني الذي قد يكون ليبراليا وقد يكون اشتراكيا أو قوميا أو إنسانيا كانا العمادين اللذين قامت عليهما الحركة الصهيونية، وهما تجسدا في التيارين اللذين أشارت إليهما من قبل وهما التيار العدواني القتالي الذي يتوسل العنف لتحقيق أهداف الصهيونية، والتيار العقلاني الإصلاحي الذي كان يمثل أفكار الانشقاق عن الحركة الصهيونية، وتسترسل روز في استحضار الشخصيات الصهيونية الأكثر تمثيلا لكلا التيارين اللذين قادا الحركة الصهيونية ومازالا يقودانها حتى اليوم.

أول من تختاره روز من الأصوات المنشقة هو غيرشوم شوليم الذي كتب من القدس رسالة للفيلسوف الألماني الشهير والتر بنيامـــين عام 1931 أعرب فيها عن اعتقــــاده بأن هناك إمكانية حل المسألة اليهودية من خلال تطــبيع اليهود، "وبالتأكيد فإنني لا أعتقد أن هذه المسألة يمكن حلها في فلسطين".

وتنقل عنه قوله إن الاستيلاء على الأرض يجب ألا يتم على أساس مزاعم دينية. (ص56) وفي العام 1929 حدث جدل بينه وبين الكاتب يهودا بورلا على صفحات صحيفة دافار قال فيه شوليم: "أرفض تماما أن الصهيونية حركة رسالية خلاصية وأنها تملك الحق لاستخدام مفردات دينية لأهداف سياسية.

إن خلاص الشعب اليهودي الذي أرغب فيه كصيهوني غير متطابق أبدا مع الخلاص الديني الذي أرغب فيه مستقبلا" ومن بين هذه الشخصيات حنة أرانت التي كتبت عام 1944 تقول إن الصهيونية أرادت قبل كل شيء "استقلالا قوميا خياليا (يوتوبيا)".

وتتناول الكاتب والأديب الصهيوني آحاد هاعام، مؤسس ما يعرف بالصهيونية الثقافية، بوصفه صوتا آخر من أصوات الانشقاق عن الصهيونية وأحد الأصوات النقدية النادرة التي تحدثت عن الطموحات القومية للعرب بطريقة إيجابية، وبوصفه أبرز منتقدي هرتزل، مشيرة إلى رسالة كتبها في عام 1918 إلى حاييم وايزمن قال فيها إن "هذه البلاد هي وطنهم القومي، وهم أيضا يمتلكون حق إقامة سلطة وطنية تناسب إمكانياتهم.

وفي مقابل هذا التيار العقلاني في الحركة الصهيونية تلقي المؤلفة ضوءا كاشفا على التيار الآخر العدواني القتالي وغيــــر الإنساني. وتضع على رأس قائمة هذا التيار ثيودور هيرتزل الذي اعتبرته مؤسس هذا الخط المتصل في الحركة الصهــيونية والذي يعتمد العدوانية والقوة وإسكات الآخر وكذلك تــــهجير الفلسطينيين، أي ما يعرف بالترانسفير، فهي تسجل أن "إبعاد الفـــلسطينييـــن إلى الدول العربية المجاورة (التــــرانسفير) قد عبر عـــنه ثيودور هرتزل بوصفه خيارا في وقت مبكــــر يعود إلى عام 1895." وأهم ما تنقله روز عن هرتزل في هــــذا المجال هو أنه كان يعرف، رغم نفيه لذلك، أن القــــومية اليهــــودية احتوت على عنف عليها أن تجد مكانا لتصــــريفه،" ومن هذه الحقيقـــة تفسر ســــياسة تكسير العظام التي اتبعــــها إسحق رابين ضد الفلسطينيين في بداية انتفـــاضتهم الأولى.

في القلب من هذا الخيط المتصل من صقور الحركة الصهيونية تضع روز دافيد بن غوريون مؤسس الدولة الإسرائيلية الذي تجمعت في شخصيته الصفتان الدينية والعلمانية، فهو اشتراكي صهيوني، ولكنه يؤمن "أن الأحداث الجوهرية الحاسمة في التاريخ اليهودي بقيت بالنسبة له طوال حـــيـاته هي الخروج وجبل سيناء وغزو الأرض بقيادة يوشع وأخيرا تأسيس دولة إسرائيل". (47) وبالنسبة لها فإن العنف تجلى في الخطة داليت التي وضعها بن غوريون في آذار 1948 والتي كانت تقضي بتدمير قرى عربية بأكملها وطرد أي عربي يقاوم التقدم اليهودي إلى ما وراء الحدود." (ص 136)

هذا الخط المتصل يشمل أيضا منظمة يمينية متطرفة مثل "غوش إيمونيم" التي تقود حركة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما تضع في الخط نفسه القائمة المكونة من أريئيل شارون وآخرين من الساسة الإسرائيليين مثل موشيه يعلون رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق الذي نقلت عنه أنه "قال لبعض جنوده (خلال عملية اقتحام مخيم جنين عام 2002) إنه لا يكترث إن بدا أفراد الجيش مثل المجانين". وعموما فإنها تعتقد بأن الصهيونية لم تكن لتلحق كل هذا الظلم بالعرب لو لم يكن ذلك بسبب العنف الذي يعترف حتى أكثر المدافعين السياسيين حماسة أنها كانت تقوم به، ليس ضد العرب فقط بل وضد نفسها". (ص121)

وتعتقد روز أن الهولوكوست كان فكرة مركزية في تبـــــلور العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينييـــن، وحتى اليوم فإن الهولوكـــوست أبعد من أن يسكت، فهو يغذي حتى التـخــــــمة الوعي الإسرائيلي ويخلق "تماهيا وحيد البعد" بين التجربة اليهودية وبين الهـــولوكوست في أذهان الشباب الإسرائيلي." وتــستشــهد بإجــــابة لأحد قادة الجيــش الإســـرائيلي على سؤال حول حقيقة أن واحدا من كل خمسة قتــلى فلسطينيين من الأطــــفال بقـــوله "أتذكر الهولــوكوست. إن لدينا خيار أن نكافح الإرهاب أو مواجهة الاحتراق في اللهب ثانية".

وترى روز أن الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 – 1939 كان لها أكبر الأثر في تحول اليهود في فلسطين إلى مزيد من التشدد. فهي ساعدت في تحول الشخصية اليهودية من شخصية "الرائد" إلى "المحارب" وهذا ما يصفه إسحق لاؤور بأنه الوقت الذي بدأت فيه "قصة الحب بين الأمة والجيش"، وتنقل عن الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان قوله "إن إسرائيل هي أكثر عسكرة وتطرفا قوميا وعنصرية مما كانت عليه في يوم من الأيام."

ترى روز أن من المستحيل الدخول في نقاش منطقي حول الصهيونية "من دون الاعتراف بحقيقة العداء للسامية وأثر الاضطهاد الذي لقيه اليهود على الصهيونية السياسية، فالصهيونية كما ترى تقوم على خلفية من العداء الأوروبي للسامية من جهة والمجازر في أوروبا الشرقية من جهة أخرى."

وفي هذا المجال تشير إلى نظرة هرتزل إلى فكرة العداء للسامية والتي تعتبرها نظرة ملتبسة على الأقل، فهي ترى أن بعض فقرات كتابه "دولة اليهود" تبدو وكأنها قد استلت من كتاب معاد للسامية.

وفي العام 1895 كتب يقول: "إن العداء للسامية، وهي قوة مؤثرة وإن لم تكن واعية بين الجماهير، لن تعود على اليهود بأي أذى." ولكن المسالة الأهم بالنسبة لها هي "ماذا يصنع الشعب بمعاناته." وبعد هذا العرض المستفيض تطرح المؤلفة سؤالا جوهريا هو "كيف أصبح أحد أكثـــر شعوب العالم تعرضا للاضطهاد تجسيدا لأكثر مظاهر القسوة في دولة قومية حــــديثة؟" وتستنج أن "من الخطأ الإيمان بأن الصهيونية السياسية كانت يوما ساذجة أو عــمياء أو بريئة، بل كانت على علم، منذ وقـــت مبكر جدا، بالأبعاد المعجزاتية لطموحها الخاص وبالثمن المحتمل." (ص120)

كاتب ومترجم اردني

الرعب إذ يمكن في قلب "المقدس" – مراجعة: صلاح حزين
 
08-Nov-2007
 
العدد 1