العدد 48 - بورتريه
 

محمود الريماوي

في الرابعة والسبعين من شبابه يتمتع داود حنانيا بجسم رياضي مربوع، وهمة بدنية ملحوظة وذاكرة يقظة. وكما هو شأنه منذ أزيد من أربعة عقود، يواظب جراح القلب الشهير، على عمله بنشاط وانضباط، لا يلقي بالاً للزمن أو يخطر بباله ما يسمى التقاعد بعدما أسهم في تدريب جيل من الجراحين الأكفاء، وفي إرساء تفوق الأردن في هذا المجال.

يشدد الباشا على أنه من أبناء ورجالات الدولة الأردنية كما كان عهد أبيه الوزير أنسطاس، وهو في الوقت نفسه ابن القدس الغربية، التي ألحقها الإسرائيليون بدولتهم العام 1948 وبقي الشطر الشرقي في عهدة الأردن بعدئذ. وهو ما يفسر المطالبة الفلسطينية والعربية بـ"القدس الشرقية". أما الإسرائيليون، فيزعمون توحيد المدينة، وكأن الاستيلاء على شطري المدينة تباعاً يشكل مكرمة منهم للبشرية.

عاش في بيت العائلة في القدس بين حيين لليهود علماً بأن اليهود كانوا أقلية آنذاك. وشهد الفتى داود الاحتكاكات والمناوشات الأولى العام 1947.

يواظب حنانيا على زيارة القدس مرتين كل عام "منذ توقيع المعاهدة". يلفت الانتباه الى أنه لم يقم أية صلات شخصية أو مهنية: مع مستشفيات أو كليات طب إسرائيلية:خاطبوني ودعوني أكثر من مرة. أجبتهم بالاستعداد للتعاطي معهم، في حالة وحيدة هي التقدم الفعلي على طريق السلام، والشروع في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة في العام 1967.

ينتمي حنانيا لأسرة مسيحية ذات جذور في بيت المقدس، وفي الأردن على السواء. والده انسطاس حنانيا انتخب نائباً لرئيس بلدية القدس أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. في العام 1950 مع إعلان وحدة الضفتين، انتقل الوالد انسطاس الى عمان، واستقر فيها منذ ذلك التاريخ. تقلد الوالد انسطاس الوزارة لـ 18 مرة من بينها وزارة خاصة باللاجئين، ثم وزارة الخارجية، ووزارة العدل في العام 1952، في الفترة التي شهدت صياغة دستور المملكة الأردنية الهاشمية، وكان لوزارة العدل والوزير القسط الأوفر في إعداد وصياغة الدستور.

الشاب داود بقي في القدس لإكمال تعليمه الثانوي في مدرسة الفرير، حيث نال شهادة المترك العام 1951 وسارع مع العائلة بعد تخرجه للالتحاق بالوالد في عمان. حظي بمنحة من الجيش العربي للدراسة في المملكة المتحدة، وكان أول خريج أردني ببعثة. لم يجد في نفسه هوى للسياسة، رغم جرح القدس الباقي في نفسه، فقد استحوذ التحصيل العلمي على تفكيره وطموحه. ما أن تخرج في العام 1957حتى التحق بالجيش طبيباً جراحاً وإدارياً: "أمضيت في صفوف القوات المسلحة الشطر الأكبر الأهم والأجمل من حياتي، حتى نلت رتبة فريق". خلال عمله نال زمالة كلية الجراحين الملكية في بريطانيا، والزمالة ذاتها من الولايات المتحدة، إضافة لزمالة كلية أطباء القلب الأميركية. تدرج في المناصب العسكرية والفنية، من قائد مدينة الحسين الطبية، ورئيس قسم جراحة القلب والشرايين فيها، الى مدير الخدمات الطبية الى مدير المؤسسة الطبية العلاجية ورئيس دائرة جراحة القلب والشرايين في مركز الملكة علياء.

يداوم الباشا حالياً على الحضور الى عيادته، في المربع الطبي بجوار" المركز العربي للقلب" على الدوار الخامس في جبل عمان، في مركز طبي يحمل اسم "مركز حنانيا". يرتبط المركز العربي منذ تأسيسه أواخر الثمانينيات باسم داود حنانيا، وفي واقع الحال وخلافاً للانطباع السائد لم يكن مالكه، بل أحد المساهمين في المشروع بنسبة لا تزيد على ستة بالمئة. المالك الرئيسي هو رجل الأعمال السعودي فهد العدل بنسبة 66 بالمئة.. هذه الملكية هي أحد دوافع تسمية المشروع بـ"المركز العربي..".

على أن داود حنانيا (74 عاماً) ارتبط قبل ذلك بما هو أكثر أهمية: ريادته في إجراء أول عملية قلب مفتوح في العام 1970، وبعد عامين في أول عملية زراعة كلى في الأردن والعالم العربي، ثم في أول عملية زراعة قلب في الأردن والعالم العربي أيضاً العام 1985.

ربطته علاقة قوية بالراحل الملك الحسين، رغم أنه لم يجر أية عملية جراحية له (لم يكن الراحل يحتاج لمثل هذه العملية) لكنه كان يستشيره في أمور صحية.

أجرى حنانيا حتى الآن 12 ألف عملية جراحية للقلب والشرايين. في ضوء هذا الرقم يمكن تصور، عدد الذين أسهم في إنقاذ حياتهم وإسعاد أسرهم.

يبدي حنانيا قدراً من الرضى عن المستوى الطبي في الأردن، لكن هذا المستوى، في رأيه أقل، من الطموح ومن الإمكانيات، فالقطاع الحكومي يعاني من "حمل ثقيل مع الأعداد المرتفعة من المرضى" والقطاع الخاص يشوبه طغيان الجانب المالي في تقديم خدمته.. هنا يذكر "الباشا" أنه كثيراً ما ينهمك عبر علاقاته مع المستشفيات، بمحاولة حل مشكلات مرضى يعجزون عن الدفع. يأخذ على القطاعين ضعف التنظيم فيهما، وكذلك ضعف التنسيق بينهما رغم عملهما المتكامل. من الخطأ كما يرى مقارنة وضعنا الطبي مع دول ذات مستوى غير مرتفع، أو القياس مع دول متقدمة.. "لكن لا بأس أن نقارن وضعنا ببلد مثل اليونان. لم نبلغ مستواه رغم ما أنجزناه".

أحد الجراحين البارزين في اختصاصه، ممن يعدون على إصبع اليد الواحدة في الشرق الأوسط، ما زال لديه الكثير مما يعطيه، ويواصل إجراء عمليات جراحية وإن بعدد أقل من الماضي. وخلال ذلك يشغل عضوية مجلس الأعيان. ينشط في لجنتي الصحة والشؤون الخارجية في المجلس. في اللجنة الأولى تسعفه خبرته وإطلالته على التجارب الصحية في دول العالم في عرض كل ما هو مفيد لدفع المسيرة الطبية الى الأمام. وفي اللجنة الثانية يدفع للمزيد من الاهتمام الأردني بمسيرة الصراع والتسوية العربية الإسرائيلية. يعترض على الانطباعات المحبطة بأن القضية "راحت.. ضاعت" يرى على العكس أنها ما زالت حية ملتهبة. وأن تمسك المعتدين بباطلهم، يستحق أن يواجه بتمسك أقوى من أصحاب الحقوق، حتى لو بدا المشهد في ظاهره محبطاً.

الباشا اللماح الشديد الانضباط والذي يعرف كيف يستثمر وقته، يبدو راضياً عن مسيرته التي لم تتوقف ويتطلع الى المستقبل، وهو الذي يعرف كيف يحدد هدفه ويصوب جهده نحوه. هذه الدربة تبدو شبه فطرية لديه، وقد عززها بممارسته المحترفة للعبة التنس الأرضي، وسبق له أن ترأس الاتحاد الأردني للتنس الأرضي ونظم في الأردن مسابقة دولية، لهذه اللعبة "النخبوية" غير الشائعة على نطاق واسع.

داود حنانيا: 12 ألف عملية والبقية تأتي
 
23-Oct-2008
 
العدد 48