العدد 47 - كتاب
 

المزاوجة بين العبث الأسود والإبداع، تلك هي اللعبة التي نذر محمد طمليه حياته لها، وحقق لا شك نجاحاً في مسعاه.

آمن محمد بصورة شبه فطرية، بأن للمرء أن يعيش حياته القصيرة بلا قيود. ومن باب أولى أن يتمتع الفنان بمثل هذه الحرية ما وسعه ذلك، ما دام الإبداع هو في الأصل والمبتدأ فعل حرية. جمع محمد في إهابه بين تمرد البدوي الذي ينعم بصحراء فسيحة لا حدود لها، وبين نقمة القروي الفقير المقذوف الى الهامش، وبين فردية أبناء المدن في حقهم بخصوصية حياتهم، مضافاً الى ذلك نزعته اليسارية الجذرية، مع فوضوية كامنة يجد صاحبها في الشاعر عرار مثلاً أعلى.. بهذا تألفت شخصية ابن عنابة، الذي يصح وصفه وعلى طريقته الساخرة بأنه جرى «تجميعه» في عمّان، فبات عمّانياً أكثر من غيره: على معرفة وثيقة بناسها وأسواقها ومجاهلها، وبسائر الناشطين السياسيين والمثقفين فيها.

كان من ظرفه وكرمه أن بيته (على طلوع البلاستيك مقابل المركز الثقافي الملكي) شكل لسنين طويلة ملتقى للمثقفين والصحفيين والمبدعين، وهو الذي لم يكن يملك غالباً قوت يومه ولو امتلكه لسارع الى تبديده، فهو ينطوي على نفور شديد من اقتناء أي شيء، بما في ذلك علبة سجائر إذ يسارع الى تدخينها أو تفتيتها: التملك يتعاكس مع شخصيته. التملك قيد.

في الحياة الطلقة المنفلتة التي عاشها، استنزف محمد جسده الغض. مجموعته القصصية الأهم «المتحمسون الأوغاد» لم يضف إليها مجموعة لاحقة. فقد توطنت لديه قناعة بأن بوسعه نثر ما يكتب من حالات قصصية في مقالاته القصيرة، ومخاطبة أوسع شريحة من القراء. مع مضي الوقت بات يضيق بالعكوف على كتابة قصة، بما تتطلبه من اشتغال دقيق وصبور على الفن، واكتفى بكتابة نصوص للنشر اليومي، الكثير منها في منزلة قصص أو مسودات لقصص. وفاقم من ذلك مزاجه الملول المتقلب الذي يتأبى على الضبط والتنظيم.

عاش محمد متمرداً على مواضعات اجتماعية ونمط حياة تقليدي، وسرت عدوى تمرده الى أصدقاء كثر في محيطه، بعضهم مكتهلون.لكن محمد للحق وخلافاً لأي انطباع سائد، لم يذهب بعيداً في انشقاقه هذا : قضية التحديث الاجتماعي والثقافي الشامل لم تشغله كثيراً. فقد كان يهجس بهامش يتيحه مجتمع تقليدي لمتمرد فنان، تماماً كحال عرار. وشخصياً فقد انتزع هذا الهامش له.كان يتطلع لأن يسمح هذا المجتمع، بقدر من التنوع والتعدد في أنماط السلوك، لا أن تتغير ثقافة المجتمع.التحديات الخارجية هي ما كانت تستحوذ على اهتمامه، باعتبار أن التحديات الداخلية «مقدور عليها».

كان محمد يسارياً بمنظور قومي. بيد أنه على خلاف اليساريين القوميين، قدم من جانبه نموذجاً لمتمرد لا يحده حد، يؤمن أنه يمكن تطويع المجتمع لتقبل مثل هذه الحالة. نجح في ذلك وبذر بذرته.

المتمردون «المجانين» أمثال محمد طمليه هم ملح الأرض.

محمود الريماوي: ملح الأرض
 
16-Oct-2008
 
العدد 47