العدد 47 - ثقافي
 

نادر رنتيسي

ربما كان جسد محمد طمليه المفرط في النحولة، سببا في أن يكون كاتبا بعدما تخلى مكرها عن فكرة أن يكون عدّاءً، رغم إجادته الركض الذي انتهى، حسب تعبير الشاعر يوسف أبو لوز، إلى نوع من اللعب بالكتابة، بطريقة رياضية رشيقة وسريعة.. خفيفة وليست قابلة للسمنة.

مجموعته القصصية الأولى «جولة عرق» مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أنبأت بقاص مغاير، يكتب نصا خاطفا بأقل ما يمكن من الكلمات، يطرق موضوعات المهمشين، مخلصا للأيديولوجيا التي شكّلت وعيه، وكانت تطغى على أدب تلك الفترة، بيد أنه لم يعمد إلى الصراخ، كما ابتعد بها عن لغة البيانات السياسية.

تكرست لغة طمليه المتقشفة، وفكرته الخفيفة من الأفكار الكبرى، في مجموعاته الأخرى التي صدرت تاليا: «الخيبة» و»ملاحظات على قضية أساسية» (1981)، ثم مجموعته الأكثر شهرة «المتحمسون الأوغاد» (1984)، التي حظيت باهتمام نقدي واسع، بيد أن الذين تناولوها وأشاروا إلى مرحلة جديدة لطمليه مع القصة القصيرة، لم يدركوا حينها أنها مجموعته الأخيرة، إذ اتجه بعدها إلى المقالة الصحفية، التي صاغها بسردية وبناء قصصي.

توقف طمليه مطولا عند «المتحمسون الأوغاد»، ربما بسبب المتابعات النقدية الكثيرة التي تناولتها، وقدمتها بوصفها بداية جديدة له، وبلغ الاهتمام بها حد تحويل بعض قصصها إلى أفلام سينمائية قصيرة، اعتماداً على المشهدية التي تتضمنها.

راودته في ما بعد العودة إلى السرد، وقد تحدث مرارا خلال سنواته الأخيرة عن رواية «يعكف» على كتابتها، تستكمل مطالع الروايات والقصص القصيرة التي تجلّت في مقالاته، لكنه أوغل كثيرا في المجاز حين قال إنها تحتاج إلى أربعين سنة لإنجازها.

أصدقاء طمليه والمطلعون على تجربته يدركون أنه ما كان سيكتب روايته، وإن عاش أربعين سنة أخرى، فمنذ مقالته الأولى في صحيفة «الدستور» في العام 1983، تكرس بوصفه كاتب مقالة ساخرة، وأسس لنمط جديد من الكتابة التي اجتهد بعضهم في مقاربتها، قبل أن تصبح «ظاهرة» في الصحافة الأردنية منذ التسعينيات.

منجز طمليه من المقالات الساخرة ظل طوال أكثر من عشرين عاما دون تأطير، فالمئات من المقالات بقيت في أرشيف الصحف التي كتب فيها، من دون أن ينتبه لفكرة جمع بعضها في كتاب قبل العام 2004، عندما أصدر برفقة فنان الكاريكاتير عماد حجاج كتابا مشتركا بعنوان «يحدث لي دون سائر الناس» يزاوج بين نص طمليه ورسم حجاج.

مقالاته قامت على مفردة «الهتك» و»الاعترافات الجوانية»، حيث لم يتورع عن قذفها مهما كانت النتائج. كان يحس أنه «الأضحية الوحيدة التي أخذها ملحدون إلى حج مرفوض سلفاً، والعريس الذي ذهب في إجازة شهر العسل بمفرده، وربما الجندي الذي مات بآخر رصاصة أطلقها في الاحتفال بوقف إطلاق النار».

بدا الكتاب أشبه بـ»ألبوم كاريكاتيري سياسي اجتماعي» ضمّنه طمليه العديد من المقالات المكتوبة من تجربته الذاتية: يُـتْـمٌ مبكّر، سفر مبتسر لدراسة لا تكتمل، انخراط محكوم بالأمل في العمل السياسي، وحب مزمن لا ينتهي بزواج وأولاد وطقوس يوم الجمعة.. ومرض طويل في أشكال ونوبات متعددة.

كان قد خرج من أزمة صحية شديدة ربيع العام 2004، راح أصدقاؤه يستذكرونه بصيغة الأفعال الماضية الناقصة، والصحف «تبيّت» أخبار النعي الاستباقية، بمتابعات تستدرك الحديث عن تجربته في سياق «ذكر المحاسن».

بيد أنه خرج عفيا، وغير ملاة، كما لم يكن من قبل. وبدا مبهورا بما اكتشفه من «جماهيرية» لدى قرائه في مستوياتهم المختلفة؛ فقد اختبرهم في حفلات التوقيع المتعددة التي أقامها في السنوات الأخيرة، ما جعل منه الكاتب المحلي الوحيد، ربما، القادر على استقطاب الجمهور.

لم يمضِ يومٌ من دون أن يكسب قارئا جديدا إلى قرائه من النخب السياسية والثقافية، إلى جانب البسطاء الذين وجدوا فيه كاتبا بسيطا، يتميز بالصدق الجارح، والسخرية اللاذعة، والفهم السياسي لما يدور في ذهن الحركتين السياسية والاجتماعية.

كسب كل ذلك رغم ابتعاده عن اليومي الثقافي، فهو ما إن نجح في انتخابات إدارة رابطة الكتاب الأردنيين في التسعينيات، حتى استقال، ذاهباً إلى تفسير نفسه كما يشتهي؛ فطمليه المولود في قرية أم ترابة شمالي الكرك في العام 1957 يعدّ طفولته في قرى الجنوب وانتقاله عند اليفوع، للعيش في «مخيم الحسين»، وضعيةً خاصة جعلته يكون «أردنيا من أصل فلسطيني» و»فلسطينيا من أصل أردني»، وبنيت كل مواقفه، والسياسة منها تحديداً، على أساس العلاقة «الكاثوليكية بين الشعبين الشقيقين».

يتابع طملية: «ربما أن دراستي في بغداد، وموت أبي ودفنه في العاصمة الحبيبة المحتلة جعلتني عراقياً: عراقي شيعي وسنّي في الوقت نفسه، ومسيحي مثل صليب».

باغته السرطان في أوج إحساسه بولادته، وتفوقه الجديد، فقد أصيب صيف العام 2004 بورم خبيث في لسانه، ألجم قلمه عن الكتابة فترة قبل أن يستعيد توازنه ويبتكر صيغة جديدة في مقاومة المرض.

تجربته في المستشفى منحته طاقة جديدة للسخرية، فراح يسخر من تلك التجربة، ساردا مقدمات الدخول إلى غرفة العمليات، وطقوس «الزي» المريض/ المغدور، الذي رآه طمليه «خادشا للحياء العام»!

اعتقدَ أن اللباس غاية في الاحتشام من الأمام، وغاية في السفور من الخلف، واستدرك أن «العورة» لا تؤخَذ على محمل الجدّ في المستشفيات!

كان يواسي نفسه أو المرضى، حين ينتقل من «شأن شخصي» إلى عام، رائيا زملاءه في الصحيفة، وطابور الركاب تحت مظلة الباص، والناشطين في الأندية، والمزارعين.. بذلك الزي الذي يلائم الجميع!

واظب على كتابة زاويته في صحيفته «العرب اليوم»، كما لم يفعل من قبل: في أوقات صحّته، يأتي باكرا ويدفعها إلى قسم الصف الضوئي مكتوبة على ورقة صفراء بخط أزرق متباعد، يقرأها في أقسام الصحيفة، يتأكد من جودتها قبل أن يدخل بها إلى مكتب رئيس التحرير، ويخرج منه مغتبطا كما لو كانت المرة الأولى التي سيرى فيها اسمه في اليوم التالي، على الصفحة الأخيرة.

أثناء علاجه في المدينة الطبية كان يحرص على وضع قرائه في صورة تطوراته الصحية في سياقات قصصية، تتيح له تشكيل المرض على هيئة «سكرتير شخصي» يذكّره كل صباح بواجبه إزاء مشروعه الأدبي.

أثمرت تلك المرحلة عن كتاب نصوص حمل عنوان «إليها بطبيعة الحال» (2007)، جاء وسط مشاريع معلّقة للكاتب الذي استهواه العبث حتى في شؤون صحته، فكان يذهب إلى أخذ جرعة الكيماوي مدخنا، ويفرط بإيقاد روحه، ممعنا بملئها بكل أسباب الحياة والرحيل..

أتقن طمليه مَدَّ الأمل في عروقه الجافة، حتى اللحظات الأخيرة قبل وفاته (ظهر الاثنين 13-10-2008)، وإنْ بصيغة سيدة تقية تخشى الحسد، حين يتحدث عن نفسه أنه شخص لم يعِش، ولم يتراكم في حياته ما يستحق الكتابة!

محمد طمليه: تحويل الهامش إلى متن والشخصي إلى شأن عام
 
16-Oct-2008
 
العدد 47