العدد 47 - ثقافي
 

معن البياري

عاشت المغنية الشهيرة أسمهان 27 عاماً فقط، وقيل 32 عاماً، غير أن حياتها القصيرة زاخرة بالتحولات والتناقضات والمغامرات، وبذلك كانت درامية بامتياز، بدءاً من الميلاد في سفينة في الماء، حتى مماتها قبل 64 عاماً في حادث غرق ما زال يُقال إنه كان مدبّراً وجريمة قتل. وإذ تنتسب إلى عائلة الأطرش، ذات الزعامة والموقع الوطني المعروف في طائفة الدروز في سورية، فذلك يُضاعف الرغبة في التعرّف جيّداً إلى مسارات حياتها الصاخبة والمثيرة.

خرجت أسمهان واسمها الحقيقي آمال الأطرش، كثيراً على التقاليد المحافظة لعشيرتها وعائلتها، وسطع نجمها في سنوات إقامتها وعيشها في مصر، في الغناء بصوتها الذي وصف بأنه ذهبي وأسطوري. عبرت في الأثناء في محطات غنى وفقر، دلال واضطهاد. وعدا ذلك، أقامت علاقات مع المخابرات البريطانية والفرنسية، وكانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة، وقيل وتردّد، أن علاقات لاحقة ربطتها أيضاً مع مخابرات ألمانيا الهتلرية في تلك الأثناء.

والتبست هذه المسألة كثيراً، وشاع أن أسمهان «جاسوسة تسعى من أجل المال، لتعيش في رغد وسعة»، غير أن مصادر صنّفت جهدها ذاك في سياق عملها من أجل استقلال بلادها سورية من المحتل الفرنسي، وهو ما يتبناه المسلسل التلفزيوني «أسمهان» الذي جاء علامة متميزة بين عشرات المسلسلات التي عرضت في رمضان الماضي، واستثناءً خاصّاً بين أعمال الدراما التي انشغلت بسير ذاتية لنجوم ومشاهير.

كان طيّباً أن التلفزيون الأردني عرض المسلسل، رغم زوبعة الدعاوى القضائية التي رافقته، ورفَعها أقارب للمغنية يعتبرون أنفسهم أوصياء على سيرة حياتها وسيرة أسرتها، ونجح أحدهم وهو إسماعيل الأطرش نجل شقيقها الأكبر فؤاد الأطرش، في استصدار قرار من وزير الإعلام السوري بمنع بث المسلسل على الشاشة السورية.

وكان المنتج الأهم للعمل، وهو فراس إبراهيم الذي أدى دور فؤاد الأطرش، قد نال موافقة ورثة المغنية على إنجاز المسلسل. لم تتوقف مشكلات هذا العمل الذي أخرجه التونسي شوقي الماجري عند هذا الحد، بل بادر من تُظهرهما مقدمة المسلسل مؤلفين له: ممدوح الأطرش، وقمر الزمان علوش، إلى التبرؤ منه. دفع ذلك الكاتب والمخرج نبيل المالح إلى إشهار انفراده تماما بكتابة حلقات وسيناريو المسلسل، وإهماله نص الأطرش وعلوش لعدم صلاحيته.

خاضت في هذه الزوابع صحف وفضائيات، منها تلفزيون «الجديد» اللبناني الذي خرج فيه جورج صليبي عن مواصفات برنامجه السياسي الحواري، واستضاف الماجري وبطلة المسلسل سلاف فواخرجي، وفراس إبراهيم، في ندوة تم تصويرها في ما يسمى قصر أسمهان في بيروت، شارك فيها أيضاً ممدوح الأطرش، وخصوم للمسلسل ومتحمسون له، وأرملة فؤاد الأطرش التي أظهرت غضباً شديداً من العمل.

وكان لافتاً ما نشر في اليوم التالي، عن زيارة قامت بها فواخرجي إلى كاميليا الأطرش ابنة أسمهان الوحيدة، وهي سيدة تجاوزت السبعين، متزوجة من أحد أعيان عائلة جنبلاط. وأفيد أنها أبلغت ضيفتها رضاها الكامل عن المسلسل، فيما كانت قالت لمجلة «المرأة اليوم» الإماراتية أن موافقتها على إنجاز المسلسل أُخذت في غفلة منها، وأنها معنية حالياً بتحصيل حقوقها وكشف «مغالطات» فيه.

ما هو جدير بالتأمل في مسألة أسمهان المغنية، وأوساط في عائلة الأطرش التي تنتسب إليها، وتزوجت في الثلاثينيات أحد أبرز زعاماتها، هو الأمير حسن الأطرش (والد كاميليا)، أن الحرص شديد لدى هذه الأوساط، النافذة ربما، على عدم تظهير صورة أسمهان، كما في الحياة التي عاشتها والأجواء التي حفّت بها. ما تبدّى في تحذيرات مديدة من هؤلاء ،من أن يجرؤ أحد وينجز عملاً تلفزيونياً أو سينمائياً عن ابنتهم، الأمر الذي دلّت عليه ممانعتهم من أن يأتي ذكرها في مسلسل «أم كلثوم» المصري قبل سنوات. ولمّا بالغ ممدوح الأطرش في تصريحه أن المسلسل أظهر أسمهان سيئة السمعة، ردّ عليه نبيل المالح أن ذلك ليس صحيحاً، وأنه لم يقع في ما قرأ عنها أنها كانت قدّيسة.

قال المالح إن أسمهان عاشت حياتها بالطول والعرض، وأنه قدمها كائنا من لحم ودم. وإذا كان من مؤاخذات على المسلسل فهي أنه لم يعتن كثيراً بإبراز حكايات أغنياتها: كيف تمت كل منها، وأرشيفها يتضمن 33 أغنية، جاء المسلسل على ذكر 22 منها، وإن العمل التلفزيوني كان معنيّاً بأسمهان الإنسانة، التي قيل أن عرافة أبلغتها أنها لن تعيش طويلاً، والتي تزوجت ثلاث مرات، مرتان منها لم تستمرا سوى شهور أو أسابيع.

اعتنى المسلسل بضعفها الإنساني، وبما كانت عليه روحها المغامرة والطامحة. وليس بتقديم صورة أيقونية عن الفنانة التي كتب عنها الصحفي المصري العتيق محمد التابعي، كتاباً، أورد فيه أن صوتها «كان كفيلاً بأن تُبهر به الدنيا، لو عرفت كيف تحكم نفسها، وتعيش كما يجب أن تعيش بعيداً عن التدخين والشراب».

في كتابه الذي أعادت دار الشروق القاهرية نشره قبل أيام، ينقل التابعي عن علياء المنذر والدة اسمهان قولها له إن ابنتها ما أحبت رجلاً في حياتها، لأنها لا تعرف الحب. ويكتب أيضاً أن الفنانة الشهيرة كانت جذّابة ولم تكن جميلة. والمعلوم أن التابعي كان صديقاً مقرباً جداً منها، وأسدى لها خدمات كثيرة في مشكلات إقامتها في مصر، التي يعود بعضها على ما كُتب وألمح إليه المسلسل، إلى تحريض الملكة نازلي والدة الملك فاروق عليها، بسبب علاقتها التي ُزعم أنها كانت عاطفية مع أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكي، وقضى في حادث سيارة بعد شهور من وفاة أسمهان في حادث الغرق الذي أظهر المسلسل أن سائق السيارة التي كانت تقل الفنانة وصديقة لها تعمّده ونجا منه، وألمح المسلسل إلى مسؤولية المخابرات البريطانية عن الحادث الذي ما زال يوصف بأنه لغزاً، ولم يكن المسلسل مقنعاً تماماً في ذلك.

هي تفاصيل غنية في حياة أسمهان التي لم يمتد بها العمر لتختتم مشاهد فيلمها الثاني «غرام وانتقام» في 1944 مع يوسف وهبي، كان الأهم فيها أنها استطاعت بقدرة فريدة خرق المحظور الاجتماعي والعائلي منذ قررت احتراف الغناء، وقاومت ضغوط شقيقها فؤاد القاسي والعنيف لها، وإن بمعاونة شقيقها الفنان فريد الأطرش، واشترطت على حاكم السويداء في حينه حسن الأطرش لموافقتها على الزواج منه أن لا ترتدي الحجاب وأن تواظب على زيارة مصر، وأن لا تطيل الإقامة في جبل العرب. وهو ما كان.

في حياتها التي عبرت في أثنائها في محطات لاهية، حاولت أسمهان الانتحار غير مرة، وعندما تزوجت من أحمد بدرخان مخرج فيلمها الأول مع فريد الأطرش «انتصار الشباب» في 1941وعندما عادت إلى حسن الأطرش عودةً كانت خارج كل التقاليد الاجتماعية، والدرزية ربما، ثم انفصالها الدامي معه،أو هجرها له، وهو الزعيم العشائري العتيد، وكان قد طلق امرأته الجديدة من أجل اسمهان التي تزوجت لاحقاً أحمد سالم. عندما كانت أسمهان تعبر إلى هذه المحطات في حياتها، بدت شخصية قلقة مضطربة، تواقة إلى حرية لا تعرف مداها، وتسرف في الإنفاق ، تسهر وتغني، ولا تلقي بالاً لابنتها، وتخوض في دهاليز علاقات الدول وأسرار السلطة في مصر وتقيم في فنادق باذخة، وتتنقل بين دمشق وبيروت والقدس، وتُمنع من دخول مصر، ثم تتدبر أمورها لتعود إلى قدرها في القاهرة.

هذه الحياة المتقلبة والتراجيدية جعلت نبيل المالح يقول إنه ليس لها مثيل في الأدب العالمي، ظلّت تبدو وبعد 64 عاماً، مصدر قلق لأسرتها التي يبدو أيضاً، أنها ما زالت تريد أسمهان أن تكون آمال الأطرش، صاحبة الصوت الاستثنائي فقط. الشاعر والناقد اللبناني عباس بيضون حيا المبادرة لإنجاز المسلسل، وأشار إلى أنه «من المهازل أن ننتظره كل هذا الوقت، وأن من المخاجل أن يبقى النزاع نفسه على سيرتها وحياتها».

كتب غير قليلة صدرت طيلة العقود الماضية عن أسمهان، اشتمل بعضها على ما يضاعف من تشوش أسمهان، كحالة تراجيدية واجتماعية شديدة الاستثنائية. من دلائل ذلك ما يتحدث عنه نبيل المالح، بأن الصدامات القانونية، بل التهديدات بإهدار الدم، والتي يمارسها حالياً بعض أفراد عائلتها، تتجدد بمناسبة المسلسل التلفزيوني، والتبس اسم أسمهان عند هؤلاء،: ما إذا كانوا يفخرون بها أم لا، حيث منزلها الذي أقامت فيه في بلدة عرا في محافظة السويداء مجرد اسطبل وركام حالياً، ويفترض أن يكون متحفاً ومزاراً، على ما يقول المالح .

صارعت الفنانة على غير صعيد، في مصر حيث أثبتت حضورها الغنائي وتردد في حينه حنق أم كلثوم منها، وفي جبل العرب.. في مجالستها الرجال وحماية هؤلاء لشابة عاشقة، وها هو مسلسل تلفزيوني عنها، فيه هنات ومؤاخذات فنية غير قليلة، يجدّد صراعات خاضتها في حياتها القصيرة بجرأة وروح مغامرة، بأنوثة مراوغة ولعوب أحياناً، وبطموح كبير. بشخصية معذبة مركبة ومتعددة الطبقات، إذ يُحكى عن إجادتها إطلاق وترديد النكات، وهي التي عانت اكتئاباً شديداً أخذها إلى ثلاث محاولات انتحار، وبوهيمية أحياناً على الرغم من اعتزازها بأنها أميرة في جبل العرب. وقيل، ولعله صحيح، إنها لو أخلصت جديّاً لصوتها الخارق لغيرت في الغناء العربي، بدل استنزاف نفسها وموهبتها.

نجح مسلسل شوقي الماجري، وبأداء نجومه، ومنهم السوري عابد فهد والمصري أحمد شاكر، وبفريق تصويره بإنجاز عمل فني خاص، يتوافر على رؤية بصرية متقنة، توازي بين اللقطة التلفزيونية والمشهدية السينمائية، استطاعت نقل أحاسيس شخصية قلقة ومضطربة، وتصوير شبكة العلاقات المتعددة في فضاء القاهرة الفني والسياسي والاجتماعي في الثلاثينيات والأربعينيات. لم ينشغل المسلسل بالتوثيق التاريخي البحت، وغالى في هذا، وتورط في تفاصيل جانبية أرهقته إلى حد ما، لكن أهم ما يُحسب له أنه يحرّض على التملي جيدا في حياة فنانة وإنسانة ماتت، غدرا ربما، في صيف 1944، وما زالت سيرة حياتها مُقلقة لبعضهم، لا تسرّهم، فيما هي ليست ملكهم بل لمحبي صوتها الساحر.

تحدّت التقاليد المحافظة.. وما زالت! : زوابع أسمهان تتجدد بعد 64 عاماً
 
16-Oct-2008
 
العدد 47