العدد 47 - أردني
 

السّجل - خاص*

الأردن مثل أي كيان سياسي اقتصادي اجتماعي منفتح على العالم، يتأثر بما يجري من أحداث في منطقته ومناطق العالم الأخرى، بمقادير واتجاهات أشد من الدول الأخرى. ولعلنا بمقاييس الانفتاح، وندرة الموارد الطبيعية النسبية، فإن نصيبنا من ظاهرة التطاير الإقليمية والدولية يفوق غيرنا بكثير. وهذا يلقي على الأردن عبئا كبيرا على إدارته وإرادته السياسية، ويتطلب مرونة وخبرة ورباطة جأش بمكاييل متوازنة لكي تسعفه على توجيه الدّفّة نحو شطآن الأمان والأمن والاستقرار.

ومرت بالأردن فترات عصيبة كثيرة في العقود الثمانية والنصف التي عاشها منذ قدوم الهاشميين إليه كي يصوغوا مع شعبه، ومن أرضه، كيانا سياسيا كان صُنْعُه أقرب إلى المعجزة. ولولا تضافر العناصر الثلاثة المتمثلة في حكم سياسي صلْب دون أن يُكسر، وسهل لا يُعصر، وبعيد نظر وراغب في المخاطرة المحسوبة، لَما تحققت المعجزة. ولولا أن الشعب كان جاهزاً ليتنازل عن سلطاته الإقليمية، ويقبل الاندماج والانصهار تحت بوتقة واحدة رغم محددات التاريخ والجغرافيا، ولولا الأرض التي بسطت ذراعيها للجميع، رغم شح ما وهبها الله من موارد، لما كان الأردن ما هو عليه من إخلاص ووفاء متبادل على أرض كريمة معطاءة.

وقد سمح الاستقرار السياسي للأردنيين جميعاً أن يبنوا، ويتطوروا، ويواجهوا المشاكل ملتفّين حول العرش يبادلونه ولاءً ودفاعاً مقابل رُحْمى وقُربى وألفة. لكن المسيرة حَفِلَتْ طوال أيامها بالمحن والتجارب القاسية والتحدّيات. وفي كل مرة اشتدت فيها المحن والكرب، ازداد الأردنُّ نفسه شدّةً وقوة.

ولعل أصعب الفترات التي مر بها الأردن في تاريخه، وأشدّها مرارة هي الفترة 1988 - 1991. فبعد أن استقر الوضع وازدهر طيلة عقد ونيف (1973 - 1986)، وحقق معدلات نمو مقنعة في جميع المناحي والمناطق والقطاعات وبين مختلف فئات الشعب، انقضّت عليه الأزمات بفعل مواقفه من الأحداث الإقليمية والعالمية التي عصفت بالمنطقة آنذاك. وخرج الأردن بعد إنهاء احتلال العراق لدولة الكويت وخروج القوات العراقية من الكويت، خرج الأردن مفلساً من دون أرصدة أجنبية، مديناً بمقدار ثلاثة آلاف دولار لكل مواطن، محاصَراً من القوات الأميركية والدولية في مضائق البحر الأحمر، مقاطَعاً من كل الأنظمة العربية في الخليج، وسورية، ومصر، ومواجهاً لمشاكل عودة حوالي 300 ألف من دولة الكويت ودول الخليج الأخرى، ومضطراً لتوفير إغاثة لأكثر من مليون شخص من دول أخرى فرّوا من القتال. وتبلور هذا كلُّه في تراجع سعر الصرف للدينار، وقلق عميق لدى المواطنين حول معاشهم ومستقبلهم ومؤسساتهم، وارتفاع حادّ في تكاليف المعيشة.

رغم ما جرى من تظاهرات في جنوب الأردن، وخلخلة في النظام المصرفي، إلاّ أن الناس وقفوا خلف قيادتهم وواجه الأردن تلك المشكلة الفادحة بعدد من الإجراءات السياسية، والاقتصادية، والإعلامية. لكن التطور الأساسي الذي عُوّل عليه كان عملية السلام والتفاوض مع إسرائيل، والتي سمحت للأردن أن يستعيد علاقاته مع الغرب المهيمن، وبخاصة الولايات المتحدة، ويفتح باب الحوار مع دول الخليج، ويستمر في إبقاء علاقته الاقتصادية مع العراق عبر استيراد النفط، ويتمكن من تخفيف الحصار على السفن القادمة إليه والشاحنات الخارجة منه إلى دول الجوار.

وقد شارك المغفور له جلالة الملك الحسين في وضع هندسة العَمَلية السلمية. وأمام إصرار الجانب الإسرائيلي الليكودي، والموافقة الضمنية على هذا الموقف من إدارة جورج بوش الأب، وفّرَ الوفد الأردني للوفد الفلسطيني المظلة التي تمكّن الفلسطينيين أن يفاوضوا الإسرائيليين وجهاً لوجه. ولولا هذا الموقف الأردني لم يُسمح إلا للحكومات أن تفاوض، ولم تكن منظمة التحرير الفلسطينية معترفاً بها كذلك، رغم قرارات مؤتمر الرباط في العام 1974، وقرار الأردن بفك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية في العام 1988.

من هنا، فإن المعضلات التفاوضية التي واجهها الأردن آنذاك لم تكن فقط في إقناع إسرائيل بالتخلي عن حقوق الأردن في الأرض التي احتلتها، ولا في المياه التي صادرتها، بل امتدت لترسم علاقة في غاية الدقة مع الوفد الفلسطيني، والسعي من أجل أن يرقى هذا الوفد إلى درجة الشريك الكامل في التفاوض، بالرغم من الموقف الإسرائيلي المتشدد، والموقف الأميركي الذي يبحث عن الحلول التوفيقية الأقرب للموقف الإسرائيلي.

أما الإشكالية الثانية التي واجهها الأردن، فهي هندسة التفاوض على الجانب الفلسطيني الإسرائيلي. فالقضايا الجوهرية مثل اللاجئين، والقدس، والمستوطنات، والحدود، تم تأجيلها إلى مرحلة التفاوض النهائي، وكانت تشكل كلها تحديات للأردن. ومن هنا، فإن الموقف لم يكن سهلاً.

وهكذا كانت الحكمة الأردنية في حسن اختيار أعضاء الوفد المفاوض بعناية، بحيث تُحقّق تشكيلة الوفد الكفاءات المطلوبة، والخبرة والالتزام والولاء، وتغطية العجز في تمثيل الوفد الفلسطيني، حيث لم يُسمح للوفد آنذاك بأن يكون فيه أعضاء يمثلون القدس، أو فلسطينيي الشتات، أو أولئك الأعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية.

وبعد اختيار الرجل الحصيف الدكتور عبد السلام المجالي، الصبور الغيور المنفتح والمحترم لكلمته ولالتزاماته، اختير بقية أعضاء الوفد بعضٌ منهم قبل مؤتمر مدريد، وبعضهم الآخر بعده. وكان من الضروري بعد مدريد وبداية الجولات التفاوضية أن يبدأ المفاوضون بالتحول من مجموعة مهارات فردية إلى فريق متناسق متعاون ضارب. وبتوجيه من المغفور له جلالة الحسين العظيم، بدأ الوفد تحت إشراف سمو الأمير الحسن بإعداد أوراق عمل تمثل السيناريوهات البديلة لسير التفاوض، ودراسة احتمال المفاجآت التي قد تطرأ من قبل الجانب الإسرائيلي بخاصة. وكان على الوفد أثناء ذلك كله أن يكتشف قدرات أعضائه حتى يوزع الأدوار عليهم وحتى يحدد واجبات كل واحد إزاء دوره الخاص وإزاء تنسيق ذلك الدور مع بقية أعضاء الفريق. وكانت أولى المشكلات إصرار الفريق الفلسطيني على أن يستقل بمواقفه وحركاته واتصالاته عن الوفد الأردني، حتى يترك الانطباع بأنه وفد مستقل. ولم يشكل هذا الأمر أي إشكالية في الموقف التفاوضي الأردني، ذلك لأن الأردنيين كانوا مقتنعين بضرورة تطور الأمور على هذا النحو مستقبلاً. وفي الوقت الذي كان فيه بعض أعضاء الوفد الفلسطيني يتشككون في الموقف الأردني ويعتقدون أنه يسعى للعودة إلى الضفة الغربية -كما بدا من لغتهم وبعض تصريحات أعضاء من الوفد- إلا أن الأردن بوصفه المظلة والدولة المعترَف بها واجه كثيراً من التساؤلات من قبل راعي المؤتمر الأساسي الولايات المتحدة، والنظير التفاوضي الإسرائيلي، حول موقفه من مساعي الوفد الفلسطيني الذي دُعي لمؤتمر مدريد تحت المظلة الأردنية.

في النهاية أقنع الوفد الأردني زملاءه في الوفد الفلسطيني أن يقبلوا فكرة انقسام الوفدين إلى مسارين، مقابل أن يكون اثنان من الأردن مراقبين في الوفد الفلسطيني، واثنان من الوفد الفلسطيني في الوفد الأردني، ومقابل عقد الوفدين الأردني الفلسطيني والإسرائيلي اجتماعاً واحداً كل أسبوع بهدف التنسيق ووضع الترتيبات والإجراءات، وليس لبحث القضايا التفاوضية الجوهرية. وهكذا نجح الوفد الأردني في حل هذه الإشكالية.

أما الإشكالية الثانية، فقد بدأت عندما تسربت الأخبار عن مسار المفاوضات السرية في أوسلو بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني بعدما وصل حزب العمل إلى رئاسة الوزراء بقيادة إسحق رابين. وهنا واجه الأردن أزمة في موقفه. فالأردن الذي كان حريصاً على التنسيق مع الوفد الفلسطيني ودعمه، واجه إشكالية في أن الجانب الفلسطيني كان يعطي للقضايا الجوهرية الدرجة نفسها من الأهمية التي كان يُعطيها للحصول على اعتراف إسرائيلي ولو ضمني بمنظمة التحرير الفلسطينية.

هكذا تبين أن على الجانب الأردني أن يقرر ما إذا كان سيسير في التفاوض مركّزاً على قضاياه الأساسية، أم إنه سينتظر الجانب الفلسطيني حتى يصل إلى اتفاق مع الجانب الإسرائيلي. وبعد بحث وتحليل طويلين قرر الأردن أن يدفع باتجاه الوصول إلى أجندة تفاوض مشتركة مع الجانب الإسرائيلي قبل يوم واحد من اتفاق الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على مبادئ مشتركة للتفاوض.

بعد انفصال الوفدين برزت معضلة جديدة تمثلت في مدى إمكانية وصول الأردن إلى اتفاقات وصيغ للسلام مع الجانب الإسرائيلي لا تجحف بقضايا المرحلة النهائية، في الوقت الذي كان بالإمكان أن يتوصل فيه الأردن إلى اتفاق مع إسرائيل قبل سنوات من حصول اتفاق سلام مماثل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. لذلك بذل الوفد الأردني جهوداً جبارة في صياغة المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية بلغة لا تهمل حقوقه والتزاماته ومصالحه الاستراتيجية، في الوقت الذي لا تبدو فيه وكأنها تتطاول على صلاحيات الوفد الفلسطيني في التفاوض. كان هذا الأمر ينطوي على حساسية كبيرة في الأردن وفلسطين على السواء. فالأردن لا يستطيع التنازل عن رعايته للأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، لأن مثل هذا التنازل لن يضمن انتقال هذه الرعاية للجانب الفلسطيني، في الوقت الذي ضمت فيه إسرائيل القدس بقانون من الكنيست.

كذلك فإن عدد اللاجئين في الأردن من العام 1948 كانوا يشكلون أكثر من 40 بالمئة من مجموع اللاجئين المسجلين لدى وكالة الغوث. ولا يمكن للأردن أن يقف مكتوف الأيدي حيال النص الوارد في اتفاق أوسلو الذي يعطي الحكومتين المصرية والأردنية دوراً استشارياً فقط في تحديد صيغ عودة النازحين والمهجَّرين في حرب 1967 وما بعدها، دون ذكر اللاجئين صراحةً.

وكذلك فإن الحدود مع إسرائيل لا يمكن أن تحدَّد دون الوصول إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي على هذا الأمر المؤجل. لكن الأردن كان يريد أن يقرر حدوده، حاصلاً على اعتراف إسرائيلي بأن الأردن ليس جزءاً من فلسطين كما يدّعي بعض الإسرائيليين.

وأخيراً، لم يكن الأردن يرضى باستمرار بناء المستوطنات، وما يعنيه ذلك من مصادرة للأراضي وضغط على الفلسطينيين في الضفة الغربية ليخرجوا منها إلى الأردن أو عَبْرَهُ، موفِّرين على الإسرائيليين عبء رعاية من احتلُّوهم، ومهدِدين أمن الأردن واستقراره.

لذلك جاءت الصياغات كلها محقِّقة لمصلحة الأردن، دون الإجحاف بالحق الفلسطيني، ودون أن ينشق عن الموقفَين السوري واللبناني. فالسوريون واللبنانيون لما يكونوا ليترددوا في توقيع اتفاقية سلام لو أنهم رأوا أن من مصلحتهم فعل ذلك.

في كل المراحل كان الإعداد الجيد، والدبلوماسية العنيدة المثابرة واضحة الخط، واختيار الأشخاص الأكفاء، وتواصل المشاورات، هي المفاتيح التي مكّنت الأردن ووفده المفاوض من تحقيق نجاح وسط التناقضات الكثيرة في العملية التفاوضية، ووسط التحديات الإقليمية والدولية وما فرضته على الأردن آنذاك من تحديات داخلية اقتصاديه واجتماعية وإدارية.

وبمثل هذه الروح، يبقى جميع أبناء هذا البلد بقيادته الحكيمة الصبورة الواضحة، وبأرضه الكريمة، فريقاً واحداً قادراً دائماً على مواجهة المشكلات والتحديات.

*شهادة لعضو بارز في الوفد الأردني المفاوض في التسعينيات، رغِبَ في عدم تذييل اسمه بها، كي يتحدث "بحرية أكبر"

التفاوض السِّلمي: حرب سلاحها الحقائق والوثائق
 
16-Oct-2008
 
العدد 47