العدد 47 - أردني
 

محمود منير

بعد سور الصين العظيم، والهايد بارك في لندن، وبرج إيفل في باريس، والسنترال بارك في نيويورك، يحضر لوتشيانو بافاروتي في مدينة البترا، لكن بروحه هذه المرة، ليؤكد التزامَهُ بالقضايا العادلة التي تبناها ونافح عنها طوال حياته.

من الحلم إلى الحقيقة، نجحت الأميرة هيا بنت الحسين، عقيلة الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، في تنفيذ رغبة والدها وبافاروتي في إقامة الحفل عبر جهودها المتواصلة في إنفاذ المعاني الحقيقية له برؤية البترا «تزداد ألقاً وجمالاً، وما تزال روح العطاء فيها مستمرة»، إضافة إلى التنسيق مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي لمتابعة مساعي بافاروتي التي بدأها قبل رحيله بوقت طويل.

في الطريق إلى بافاروتي، اكتشف نخبة من الشخصيات السياسية والإعلامية من مختلف أنحاء العالم مدينة البترا كشاهد أبدي على حضارة الأنباط العربية، في حفل استثنائي حمل عنوان «تحية للبترا: الاحتفال بحياة لوتشيانو بافاروتي»، أقيم مساء الأحد الفائت، أكد عالميةَ كلٍّ من مغني الأوبرا الايطالي الشهير والمعْلَم الأثري الذي استعاد احتضانه للفن، كما كان في عهد بُناته.

شارك في الحفل الذي أقيم في مخيم عمارين قرب المدينة الأثرية، التي يعود تاريخ تشييدها إلى القرن الأول بعد الميلاد، عدد من ألمع الأسماء في عالم الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى البوب، وهم: ستينغ، وإندريا بوتشيلي، وإنجيلا جيورجيو، وإيدن كارمازوف، وزوكيرو، وإندريا غريمانلي، وسنثيا لورنس، وروبرتو الانيا، وجيوفانوتي، ولورا باوسيني، وبلاسيدو دومنيغو، وخوسيه كاريراس. وقاد الفريق المايسترو إيوجين كون.

وفاءً للحلم المشترك للراحلين الملك الحسين والفنان لوتشيانو بافاروتي، حضرت الحفل الملكة رانيا العبد الله، كما حضر بافاروتي في صوره النادرة مع أصدقائه وعائلته وفي حفلاته الموسيقية بمختلف أنحاء العالم على شاشات عرض ضخمة رافقت الحفل في أداء مميز للمغنين، إلى جانب عزف الأوركسترا التشيكية المعروفة "ذي براغ فيلهارمونيا".

أدى "أصدقاء بافاروتي" أشهر الأعمال الأوبرالية العالمية لغيتانو دونيزيتي وماريكوني ودي لازورا وماغوني وباليزي وروسيني وموزارت، كما قدّموا مقاطع من أوبرا "لا بوهيم" لغياكومو بوتشيني التي كانت العمل الأوبرالي المفضّل لدى بافاروتي، وكانت طريقه إلى العالمية.

تمثل "لا بوهيم أو البوهيميون" قمة إبداع بوتشيني، صاحب الموسيقى الحارّة التي كانت قريبة من عواطف العامة من الجمهور، وهو النهج نفسه الذي اختطّه بافاروتي لنفسه من خلال رؤيته الخاصة للأوبرا، والمتمثلة في نقل هذا الفن المرتبط بالطبقة الأرستقراطية ليكون فناً لجميع الناس.

على مدار أربع ساعات متواصلة، حظي خمسمائة شخص بالإصغاء إلى سلسلة منوعة من الأعمال الأوبرالية بتطعيمات مختلفة حيث الآلات النفخية والبيانو وآلة الهيرب الوترية ومستويات متعددة من الأصوات: التينور والباريتون والباص والسوبرانو، نقلت حالات متوهجة من قصص العشق والأحلام والعواطف المتدفقة.

أندريا بوتشيلي، الملقب بـ"صوت آتٍ من السماء" تألق في أداء أغنيته الشهيرة "أتحدى لأعيش" بالاشتراك مع المغنية الايطالية لورا بوسيني، وهي إحدى الأغنيات التي قدّمها في حفل زواج بافاروتي من زوجته الثانية نيكوليتا مانتوفاني العام 2006، وينشد في مطلعها: "أعيش لأجلها منذ أول مرة التقيتها، لا أعرف كيف، لكنها أصبحت في داخلي وبقيت هناك، أعيش لأجلها لأنها تجعل روحي ترتعش بقوة، أعيش لأجلها وهذا ليس عبئاً عليّ".

وأدى بوتشيلي، الذي فقد بصره في الثانية عشرة من عمره، مقطعاً من أشهر الأعمال الأوبرالية لبوتشيني يُدعى "توسكا". تدور أحداث الأوبرا في بداية القرن التاسع عشر بروما أثناء غزو الجيوش الفرنسية لإيطاليا. وتتركز في ثلاث شخصيات محورية بصفات مختلفة، أولها شخصية سكاربيا رئيس البوليس الشرير، والشخصية الثانية "توسكا" المغنية الشهيرة الغيورة، والثالثة: المصور ماريو البطل الرومانسي.

بوتشيلي لم يجتمع مع رفيقه بافاروتي في عملهما الأوبرالي المشترك "تعيس" فحسْب، بل جمعهما موقفهما المشترك في رفض الحرب على العراق، وعبّرا وقتها عن عدم فهمهما للسر وراء ما وصفاه "هيام الإدارة الأميركية الحالية بشن الحروب، متجاهلة كل الأرواح البشرية البريئة".

المغنّون تناوبوا بأصواتهم المتنوعة على الغناء الفردي تارة والثنائي تارة أخرى، وتوحدت مشاعرهم بموسيقى استقبلها الحضور بحماسة شديدة، بخاصة مع أداء النجم العالمي ستينغ بالاشتراك مع السوبرانو الرومانية إنجيلا جورجيو مقطعاً من أوبرا موزارت الشهيرة "دون جوان" التي تحاكي قصة عاشقَين تبعدهما الأقدار عن بعضهما بعضاً، كما تألق نجم الروك البريطاني في أداء مقطوعتيه "حقول الذهب" و"تأتين من جديد".

كان بافاروتي حلمَ بأن يكون مغنياً عندما كان في الرابعة من عمره وهو يستمع إلى والده يرتل في كنيسة المدينة بصوت تينور جميل، لتشكل أوبرا "لا بوهيم" التي تحاكي غربة الإنسان إحدى العلامات البارزة في حياته الفنية، فمنها بدأت شهرته تطوف ايطاليا وأوروبا. إلاّ أن مقطع "ليهجر الجميع النوم" من عمل أوبرالي آخر لبوتشيني نقلته إلى العالمية يوم غنّاه في افتتاح مونديال إيطاليا في العام 1990، وشاهده أكثر من مليار شخص على شاشات التلفزة العالمية.

وزيرة الثقافة نانسي باكير، تحدثت في تصريح خاص بـ"ے" في البترا، عن عظمة الحفل الذي جمع أشهر مغنيي التينور في العالم، وفي مقدمتهم بلاسيدو دومنيغو وخوسيه كاريراس.

المصور الياباني أكيمي أكد إخلاص منظمي الحفل لبافاروتي عبر إقامته في الهواء الطلق في إحدى ساحات البترا، تماماً كما أراد الراحل، الذي سعى لنشر الأوبرا في أرجاء العالم بإخراجها من صالاتها المغلقة إلى الرصيف والحديقة العامة والأستاد الرياضي. وأضاف في تصريح خاص بـ"ے": "ليس من السهل على جمهور بافاروتي الواسع أن يفارقه، لكن الفنان الراحل استطاع اليوم أن يلمس روح الناس كما كان يرنو دائماً"، وعبّر عن امتنانه للأميرة هيا باستذكارها "أحد أكثر الموسيقيين الكلاسيكيين شعبيةً في تاريخ التسجيل الموسيقي، والذي في صوته كانت تشع الشمس".

ولفت إلى أن بافاروتي كان أول سفراء الأمم المتحدة للعناية بأطفال الحروب، وهو الذي ترعرع في فقر الحرب العالمية، فمنحته نعمة القناعة الباسمة والصوت العظيم.

أستاذة الطب النفسي في جامعة إستانبول زينب توتروس، التي حضرت الحفل، قالت في حديث لـ"ے"، إن بافاروتي أوصل فن الأوبرا لعامة الناس بعد احتكاره سنين طويلة، وأوضحت أن "الألحان التي غناها التينور الإيطالي كانت تخرج من القلب كما تخرج التنهدات، وهو ما دفع جمهوره للبكاء في كثير من حفلاته".

توتروس تزور الأردن للمرة الأولى لحضور الحفل الذي يقام لمناسبة الذكرى الثالثة والسبعين لمولد بافاروتي. وهي تستذكر عبارته الشهيرة "الجسد كلّه يجب أن يغنّي" التي ترجمها في حياته عبر تفوقه الاستثنائي في التجريب في حقول متنوعة من الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والروك والبوب.

تشير توتروس إلى الدور التاريخي الذي أداه الملك الحسين وأفراد العائلة المالكة في دعم الثقافة، ما يؤشر على ذائقتهم العالية وتقديرهم للجمال ورغبتهم في الاقتراب من الناس من خلال مشاركتهم لغة واحدة هي "لغة الفن".

يأتي حفل البترا في إطار الجهود الخيرية التي كان بدأها بافاروتي في حملة أعلنت عنها الأمم المتحدة لصالح أطفال مخيمات اللاجئين الأفغان في باكستان، كما أطلق هو شخصياً مبادرة إنسانية إثر إصابته بسرطان البنكرياس، فأقام حفلات خيرية أُطلق عليها "بافاروتي وأصدقاؤه".

المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي خصصا ريع الحفل لدعم برنامج الأغذية العالمي في أفغانستان، بالإضافة الى ذلك سيذهب جزء من ريع الحفل إلى صندوق البترا الوطني للمحافظة على البيئة والتراث الثقافي للمدينة، ولجمعية خيرية لدعم الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ولفت مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في كلمة افتتاحية، إلى دعم المفوضية للحفل، نظراً لما يمثله بافاروتي كرمز للتسامح في وقت يشهد العالم فيه مزيداً من الصراعات. وأضاف: "بافاروتي كان أسطورة حية ساهم في تسليط الضوء على محنة اللاجئين والمنكوبين، استطاع بروحه توحيد الناس".

وكان الحفل تزامن مع منح الملك عبد الله الثاني الراحلَ لوتشيانو بافاروتي وسام الحسين للعطاء المتميز من الدرجة الأولى، "تقديرا لإسهامه ودوره الإنساني الكبير الذي قام به كسفير سلام للأمم المتحدة"، سلمته الملكة رانيا العبد الله إلى نيكوليتا مانتوفاني أرملة الفنان الراحل. مانتوفاني عبّرت في تصريح خاص بـ"ے" عن عميق تقديرها لتنظيم هذه الفعالية تكريماً لبافاروتي الذي "تفتقده إنساناً رائعاً يساعد الناس ويشعر بمعاناتهم ومآسيهم"، ولفتت إلى أهمية هذا الحفل الذي دعمت الأميرة هيا إقامته بوصفها سفيراً للأمم المتحدة وشارك فيه أصدقاء بافاروتي.

روح “بافاروتي الكبير” تؤنس ليلَ البترا بأوبرا العشق والسلام
 
16-Oct-2008
 
العدد 47