العدد 47 - أردني
 

حسين أبو رمّان

فرضت الحكومات الأردنية منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967 الأحكام العرفية، وصادرت الحريات بحجة حالة الحرب مع إسرائيل.

لكن الأردن مارس خلال السنوات 1989-1993 حالة متقدمة من الانفراج السياسي، وألغى الأوضاع الاستثنائية، ودشّن مرحلة من التحول نحو الديمقراطية ، ثم جاء "السلام" فعصف ببعض منجزات السنوات السابقة، وعرقل تطور البلاد نحو حياة ديمقراطية مستقرة.

انعكاسات الأحداث تظهر عادة بعد وقوع الأحداث لا قبلها، لكن حينما يتعلق الأمر بمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، فلا غرابة في أن واحداً من أهم انعكاساتها السياسية، وقع قبل أن ترى المعاهدة النور، وتمثّل ذلك بصدور القانون المؤقت رقم 15 لسنة 1993 المعدِّل لقانون الانتخاب رقم 22 لسنة 1986، وهو ما عرف بقانون "الصوت الواحد" الذي ما زال يشكل، بالصيغة التي اعتمد فيها، عقبة كأداء أمام تطور الحياة السياسية والنيابية في المملكة.

لقد تشكل في الوعي الجمعي الأردني أن التحضير للمعاهدة وتهيئة الأجواء النيابية لتمريرها إثر توقيعها، يقف خلف صدور قانون الصوت الواحد المؤقت.

فهمي الكتوت الناشط السياسي اليساري، يقول إن الحكومة "عملت بوضوح من أجل تشكيل مجلس نواب يتفق مع نهجها، ما أضعف ثقل الحركة الوطنية وقوى المعارضة في المجلس المنتخب عام 1993، ويسّر تمرير المعاهدة".

في الرابع من آب/أغسطس صدرت الإرادة الملكية بحل مجلس النواب الحادي عشر الذي كان غير منعقد بعد انتهاء دورته الرابعة والأخيرة، لأن المجلس يبقى في الأحوال العادية قائماً حتى يتم انتخاب المجلس الجديد، سنداً للمادة 68 من الدستور.

حكومة عبد السلام المجالي (الأولى) أصدرت بعد 13 يوماً على حل المجلس النيابي قانون "الصوت الواحد" بصيغة قانون مؤقت باعتبار أن مجلس النواب بات منحلاً، وأجريت انتخابات المجلس النيابي الثاني عشر بتاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 1993بالاستناد إلى قانون الصوت الواحد المؤقت. حزب جبهة العمل الإسلامي وأحزاب يسارية وقومية، هددوا بمقاطعة الانتخابات احتجاجاً على القانون المذكور، إلا أنهم رجحوا كفة المشاركة في نهاية المطاف.

حينما عرضت المعاهدة بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر على التصديق في مجلس النواب، حازت على 55 صوتاً، وعارضها 23.

من النواب الحاليين الذين كانوا أعضاء في المجلس الثاني عشر وأيدوا المعاهدة: مفلح الرحيمي، منير صوبر، جميل الحشوش، عبد الرؤوف الروابدة، عبد الهادي المجالي، عبد الكريم الدغمي، وتوفيق كريشان. أما معارضو المعاهدة، فهم 17 من الإسلاميين أحدهم كان مرشحاً بصفة فردية من "الإخوان"، ومنهم في المجلس الحالي فقط حمزة منصور، سليمان السعد، ومحمد الحاج، وفي الحكومة عبد الرحيم العكور. وهناك 6 معارضين آخرين للمعاهدة هم: توجان فيصل، خليل حدادين، صالح شعواطة، طلال عبيدات، بسام حدادين، ومصطفى شنيكات.

قانون الصوت الواحد، جاء ليستبق معاهدة السلام مع إسرائيل لضمان وجود برلمان «مطواع» في مواجهة معاهدة السلام على يد حكومة عبد السلام المجالي الأولى، بالمقابل فإن قانوناً مؤقتاً للمطبوعات والنشر صدر بعد المعاهدة على يد حكومة عبد السلام المجالي الثانية، جاء لتقييد حرية الصحافة والتعبير.

الناشط السياسي الكتوت يقول: «بعد إقرار المعاهدة بدأت الحكومة تتخذ إجراءات شبه عرفية لحرمان الناس من التصدي للمعاهدة، وهذه الإجراءات طاولت حرية الصحافة وحق الناس في التعبير عن رأيها. كما منعت المسيرات والاجتماعات الحاشدة المناهضة لاتفاقية وادي عربة». الكتوت يضيف «الحكومات تضع قيوداً على ممارسة الديمقراطية لأنها تدرك أن الشعب لا يمكن أن يكون مع حلول جزئية أو مع سلام لا يكفل انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة».

في 18 أيار 1997، أي بعد شهرين فقط على تشكيلها، أصدرت حكومة المجالي القانون المؤقت رقم 27 لسنة 1997، المعدِّل لقانون المطبوعات الصادر العام 1993. القانون المؤقت، رفع رأسمال الصحف الأسبوعية، المستهدفة أساساً بهذا التعديل، إلى 20 ضعفاً، من 15 ألفاً إلى 300 ألف دينار، كما وسّع نطاق المحظورات، وغلّظ العقوبات.

وكان من النتائج المباشرة لتعديل قانون المطبوعات، إغلاق 13 صحيفة أسبوعية دفعة واحدة لم تتمكن من توفيق أوضاعها مع التشريع الجديد.

محكمة العدل العليا التي اشتكى إليها أصحاب الصحف الأسبوعية المتضررة، أصدرت القرار «عدل عليا رقم 226/97» بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 1998 القاضي بوقف العمل بالقانون المؤقت نظراً لعدم دستوريته، لأن المحكمة وجدت أنه لا يلبي الشروط الواجب توافرها في القوانين المؤقتة، ما يعني العودة للقانون السابق. لكن الحكومة سارعت إلى إحالة قانون جديد للمطبوعات والنشر إلى مجلس الأمة، حافظت فيه على روحية القانون المؤقت الموؤود مع بعض التعديلات، ما أوقع جميع الحكومات اللاحقة خلال الفترة 1998-2007 تحت ضغط المطالبة بتعديله.

في تعليقها على قرار محكمة العدل العليا، ذكرت صحيفة القدس اللندنية في معرض تفسير صدور قانون المطبوعات المؤقت بأن الصحف الأسبوعية في الأردن شكلت معارضة شديدة، وتناولت «السخط الشعبي على اتفاق السلام الأردني مع إسرائيل».

التعديلات بقوانين مؤقتة على تشريعات الانتخاب (1993) والمطبوعات والنشر (1997)، تركت حالة عميقة من الإحباط في أوساط الأحزاب السياسية لا سيما المعارضة منها، لأن هذه التشريعات جاءت متعارضة مع مضامين «العقد الاجتماعي الجديد» و»المصالحة الوطنية» اللذين مثّلهما الميثاق الوطني (حزيران/يونيو 1991).

في الذكرى العاشرة لتوقيع المعاهدة، قالت جبهة العمل الإسلامي في بيان لها «إن أولى ضحايا المعاهدة التجربة الديمقراطية الوليدة، التي بدأها الأردن عام 89، وظن المواطنون حينها، وفي مقدمتهم القوى السياسية، أنها بداية مرحلة لتوسيع الحريات العامة، وتعزيز المشاركة الشعبية، واحترام العمل المؤسسي، وتفعيل الدستور، فتبددت كل هذه الآمال بتوقيع المعاهدة».

وأضاف البيان لقد «فرض قانون الصوت الواحد لحرمان الشعب الأردني من تمثيل حقيقي في مجلس النواب، وهمشت الأحزاب السياسية، وصودرت الحريات الأساسية للمواطنين، ولم يسلم من ذلك النقابات المهنية والجامعات الأردنية والبلديات، على الرغم من دعاوى التنمية السياسية».

عام 1997، كان عام إجراء انتخابات مجلس النواب الثالث عشر. في أيار/مايو من ذلك العام، اندمجت تسعة أحزاب وسطية يقود معظمها شخصيات جاءت للعمل الحزبي من مواقع رسمية في أجهزة الدولة منها عبد الرؤوف الروابدة، عبد الهادي المجالي، مجحم الخريشة. حظي الحزب الجديد الذي حمل اسم الحزب الوطني الدستوري، بتغطية متميزة في الإعلام الرسمي ما كرس الانطباع السائد بأنه مشروع حزب حاكم على الطريقة المصرية.

الإعلان عن ولادة «الوطني الدستوري» ثم صدور قانون المطبوعات المؤقت المعدل لقانون 1993، أثارا خشية جماعة الإخوان المسلمين التي ما لبثت أن أعلنت مقاطعة الانتخابات النيابية بتاريخ 14 تموز/يوليو. ورغم أن الجماعة فسرت مقاطعتها للانتخابات، بشكل رئيسي، بالاحتجاج على قانون «الصوت الواحد» وقانون المطبوعات المؤقت، إلا أنه كان هناك خشية حقيقية من تبني الدولة للحزب الجديد على حساب جبهة العمل الإسلامي. يفسر ذلك ما جاء في بيان المقاطعة «ففي الوقت الذي تتبنى فيه الحكومة حزباً سياسياً وتقدم إمكانات الدولة لخدمته ودعمه، فإن النتائج المؤكدة لهذا السلوك هو تشكيل حكومة الحزب الواحد والإبقاء على تمثيل رمزي للأحزاب الأخرى للإيهام بوجود حياة حزبية ديمقراطية».

المناخ المناهض للحريات الذي تلا معاهدة السلام، استمر طويلاً، وتعمق في مسعى للحد من حرية حركةالمناهضين لعملية السلام ومقاومي التطبيع. هذا أسس لصدور قانون «مؤقت» (أيضا) للاجتماعات العامة في آب/أغسطس2001. القانون المؤقت اتسم بالتشدد، واشترط موافقة الحاكم الإداري الخطية المسبقة لإجازة أي اجتماع أو مسيرة، ملغياً القانون الديمقراطي القديم رقم 60 لسنة 1953. ومازال هذا التشريع يحتفظ بقيوده غير المبررة على الاجتماعات العامة رغم تحوله إلى قانون عادي في عهد مجلس النواب السابق. وحتى حينما أمر الملك عبد الله الثاني بتيسير عقد الاجتماعات العامة، أعدت الحكومة تعديلات شكلية على القانون، لم يدخل عليها مجلس النواب الحالي أي تطوير فعلي.

التصويت على المعاهدة في مجلس النواب الثاني عشر عام 1993، وتطور الوضع العام في البلاد منذ ذلك الحين، يشير إلى أن المجتمع السياسي مجتمع معتدل في محصلته، وأن الأردن يمكن أن يجمع بين وجود المعاهدة وبين مواصلة تحوله نحو الديمقراطية، ما يؤكد أن مقاومة دمقراطة التشريعات الناظمة للانتخاب والحريات والعمل السياسي ليس مبرراً، ويمثل خسارة صافية للبلاد، وعائقاً أمام تقدمها.

معاهدة السلام “صادرت” مكتسبات الانفراج الديمقراطي
 
16-Oct-2008
 
العدد 47