العدد 47 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

يعشق الخيول التي تعدو في البرية بكامل عنفوانها وتوقها للحرية. من فرط حبه لها، علّم فلذتَي كبده "سليم" و"هالة" ركوبها. غير أن له موقفاً من تلك الخيول "المغرقة في التدجين".

ولد جورج حواتمة في الزرقاء العام 1952. تحدّر من عائلة ميسورة، عرفت الهجرة المبكرة إلى العالم الجديد. اثنان من أعمامه هاجرا إلى العالم الجديد وإفريقيا في العام 1910، تبعهما والده بالسفر إلى فنزويلا. وحين عاد بعد سنوات إلى الوطن بنى أكبر عمارة في "حي الحواتمة"، وأنشأ سلسلة محلات في شارع الأمير نايف، أسماها "فنزويلا" ربما عرفاناً لتلك الدولة المشلوحة على شاطئ الكاريبي الجنوبي.

أمضى سني دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدرسة الكاثوليك بالزرقاء.

حبه الأول كان للبنت الأجمل في الحارة المجاورة، تلك التي لم يصارحها قط بلواعج قلبه.

وعيه السياسي بدأ يتشكل في العام 1967، وما تبعه من أحداث وتداعيات.

قدّم التوجيهي في أيلول/سبتمبر 1970، تحت انهمار رصاص أيلول، وفي تلك الأجواء غادر لإكمال دراسة الطب في بريطانيا.

انتظم في دراسة "مترك لندن" (GCE)، وقد غيّر رأيه إزاء دراسة الطب، التي كانت تتطلب مجهوداً كبيراً، لم يكن راغباً فيه، نظراً لانشغاله بالعمل السياسي والتعرف إلى أنماط الحياة البريطانية. واختار دراسة السياسة والاقتصاد والفلسفة في أكسفورد أو كمبردج، ما أدخله في نزاعات حادة مع والده، حسمها الاثنان بالاتفاق على أن يدرس الهندسة كحل وسط. فاختار منسجماً مع نزوعه للتمرد دراسةَ الهندسة النووية "لأن العمل في مجالها في الأردن لم يكن وارداً!"، يقول.

حاز البكالوريوس في العام 1976، وقفل عائداً إلى الأردن لفترة قصيرة، سافر بعدها إلى الولايات المتحدة في بعثة دراسية موفَداً من جامعة اليرموك لدراسة الدكتوراه.

قبيل سفره بقليل تعرض لحادث سير أقعده المنزل لمدة عام، ولاحقته تداعيات الحادث إلى جامعة بنسلفانيا، فقطع دراسته وسافر إلى بلاد الشمس والبرتقال (كاليفورنيا) حيث كان يقيم شقيقه عاطف. أجرى هناك عمليتين جراحيتين تكللتا بالنجاح، لكن حالته الصحية لم تسمح له بالعودة لمواصلة دراسته.

درس الماجستير في الأعمال MBA، ودخل بعدها سوق العمل، لكن الضغوطات التي مارسها والده عليه دفعته للعودة، خصوصا بعد أن اتهمه وشقيقه عاطف بأنهما تركاه وحيداً يدير شؤون عائلته الكبيرة (10 بنات وابن صغير).

عمل "أبو سليم" في الطيران المدني، بمعيّة المدير العام الشريف غازي بن راكان، وفي العام 1981 التحق بالعمل في صحيفة "جوردان تايمز" محرراً لنصف صفحة من صفحاتها الثماني، و"بارت تايم"، براتب 100 دينار.

ببساطة لا تخلو من سخرية يُعرَف بها، يشرح شيخ الصحفيين الشاب الكيفيةَ التي صار بها رئيسا لتحرير الصحيفة الناطقة باللغة الإنجليزية: "شغر موقع محرر صفحة الآراء والتعليقات، فعرض علي مبلغ 150 ديناراً، فوافقت، ثم شغر موقع محرر الصفحة الأولى، وكان عملاً ليلياً يتطلب ترك وظيفتي في الطيران المدني براتب 250 ديناراً، أي بزيادة مقدارها 50 ديناراً، فقبلت على أن أكتب أربع مقالات شهرية بمكافأة مقدارها 100 دينار. ثم شغر موقع مدير التحرير الذي كان شغله أخي وصديقي معاذ شقير، فلم أقبل به لأنه يتطلب عملاً إدارياً، ولم أشأ أن أكون مديراً على أحد. لكنهم لم يتركوني، ومارسواً ضغوطاً علي، ورفعوا معاشي إلى 500 دينار. فقبلت به. ثم شغر موقع رئيس التحرير نفسه، فعرضوه علي ورفضته، إلى أن رفعوا راتبي إلى 700 دينار، كان ذلك في العام 1983، فقبلته".

يجادل أبو سليم بأن "الدخل" كان مهماً بالنسبة له، نظراً لانه اعتاد على "العيش مستقلاً".

يصف عمله في "جوردان تايمز" بالتجربة الهائلة. "كنا نخاطب القيادة والدبلوماسيين الأجانب والسياح والزوجات غير الأردنيات ورجال الأعمال، والنخبة بشكل عام".

ربطته علاقة غير تقليدية مع الملك الراحل الحسين، وقد عرفه من قرب، ومن خلال تفاعله مع السياسات التي يختطها وطريقة قيادته الفذة.. كما عمل مع ولي العهد آنذاك الأمير الحسن الذي يتسم بـ"الصلابة والشفافية".

ظل حواتمة رئيساً للتحرير حتى العام 1988 حين سقطت القشة التي قصمت ظهر "القلم"، غداة تلقّيه دعوة لتغطية مؤتمر القمة الذي عُقد في عمّان آنذاك، رافقها طلبه لـ"الاستجواب". فقرر عدم حضور المؤتمر وعدم تلبية دعوة "الاستجواب" أيضاً.

قدم استقالته عاقداً العزم على "العودة إلى أميركا"، والعمل بعيداً عن الصحافة وتعبها. أواخر العام 1989، أعيد "مخفوراً" للعمل في ظل الديمقراطية الجديدة. وكان مما قيل له: "هاي الديمقراطية شغلتك، تعال مارسها".

استقر بـ"أبي سليم" الحال في "جوردن تايمز" عشر سنوات أخرى، تميزت بثقل أحداثها وتتابعها: حرب الخليج الأولى، صعود الإسلاميين، مؤتمر مدريد، ومعاهدة وادي عربة. وقد عمل بمعيته وزراء ومستشارون وصحفيون كبار: مروان المعشر، وأيمن الصفدي، ورانيا عطا الله، وجيني حمارنة، وغدير الطاهر، ونتاشا البخاري، ورنا صباغ، وناصر جودة، وسلامة نعمات، وسعد حتر وآخرون.

اقترن بالدكتورة كريستينا زخريا في العام 1997، وأنجبا "سليم" و"هالة" اللذين يملآن حياته ويثيران قلقه من المستقبل.

في العام نفسه قرر ترك العمل الصحفي، "لأن لا مستقبل مادياً لهذه المهنة" بحسب تعبيره.

شد الرحال إلى أميركا ثانية، وعمل في مجال الإعمال، لكن قيادة "الرأي" عُرضت عليه مع تولي الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية. فآبَ، ليفاجأ بالحرس القديم "يضعون أرجلهم في الحائط"، رافضين قيادته لمؤسسة "تسيطر عليها قيادات تقليدية".

وُجه إلى العمل في المكتب الإعلامي في واشنطن إلى أن "تسلك الأمور"، فوافق. عندما "سلكت" قاوم فكرة العودة، بعدما اكتشف أن له دوراً مهماً في واشنطن، لكن الأمر لم يكن بيده.

تسلم رئاسة تحرير "الرأي" في العام 2001 . "كانت الصحيفة بحاجة إلى إعادة نظر، وتحويلها من مؤسسة تجارية تدار بمرجعيات وطنية إلى مؤسسة دولة تعمل على أسس تجارية". عمل حواتمة على الارتقاء بالصحيفة التي كانت وفقه "في منحنى انحداري من ناحية التوزيع على الأقل"، ونجح برؤيته وهمة الزملاء العاملين معه، في تحويل المنحنى إلى الصعود، غير أن "الخيول إياها" فعلت فعلها ثانية "واضعة العصي في دواليب التطوير".

تواصلت الضغوطات مع تغير حكومة علي أبو الراغب ومجيء حكومة فيصل الفايز الذي تربطه به علاقة صداقة وزمالة دراسية من أيام بريطانيا. سأله الفايز: هل أنت مصرّ على "الرأي"؟ ثم عرض عليه سفارة في دولة لم تُحَدَّد، لم تأتِ لحدّ الآن! تقاعد مبكراً وعاد إلى مشروعه الموسوعي على الإنترنت الذي كان بدأه في العام 1998، وما زال مستمراً في مسعاه، فضلاً عن قيامه بالأبحاث والدراسات وتدريب الصحفيين.

في العام 2007 شارك في تأسيس "ے"، إلى أن جاء عرض رئاسة تحرير "الغد"، وكان العقد لمدة عام، ما شجعه على قبول الفكرة، فهو على حد تعبيره، لم يكن تواقاً للعودة لرئاسة التحرير. غداة انتهاء عقده مع "الغد" اتفق مع صاحبها محمد عليان على عدم التجديد، وتحدثت تسريبات عن ضغوط دفعت في هذا الاتجاه.

حين يراقب مزهواً ولديه يسابقان الريح على صهوة جوادين يافعين، يتأمل صفحات حياته، مستشعراً العزيمة القديمة والرغبة العارمة تتدفق في أوصاله، لمقارعة كل الرياح.

جورج حواتمة: يحلم بـ“القلم” والخيول
 
16-Oct-2008
 
العدد 47