العدد 47 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي
في المربع المعرفي الذي يضم في منطقة الجبيهة: الجامعة الأردنية، الجمعية العلمية الملكية، منتدى الفكر العربي، والمركز الجغرافي الملكي، يجد همام غصيب موقعه ويجده المكان، كأحد أبرز رموز المعرفة والفكر والبحث العلمي في البلاد. تصطف ثلاث شجرات شقيقات ووارفات على مدخل منتدى الفكر "يحرسن"، المبنى الأبيض اللبني، ويعقدن نسباً بين الحجر الطبيعة الخضراء.ينشط هناك همام غصيب (60 عاماً) مديراً للبرامج والدراسات ونائباً للأمين العام.. لا صوت يصدر في المكان النظيف، المكون من طابقين بسطح واحد. المكان مأهول بأقل عدد من الموظفين، فلا يلمح الزائر في انتقاله من الطابق الأرضي إلى الأول، سوى موظفتين عاكفتين بصمت على عملهما، إحداهما باحثة، والثانية مديرة مكتب نائب الأمين العام. لهُمام غصيب هيئة طبيب أو مدير مختبر بوجه نضرسمح، وسحنة تكاد تكون أوروبية، إنما بلهجة محلية صميمة : لهجة أهل الفحيص التي تعود جذوره اليها وهو العمّاني المولد والنشأة الإقامة.. ومع أن غالبية أحكامه على أحوال الأمة سالبة، إلا أنه يعبر عن هذه القراءة بنبرة بعيدة كل البعد عن التشاؤم، بل هي أقرب الى التفاؤل!. رغم أن الرجل ليس واعظاً ولا مؤدلجاً، بل من دعاة مدرسة تدعو لتحكيم العقل والنظر الموضوعي في الأشياء والمظاهر. مع ذلك يخرج زائره بانطباع أن الرجل مع سمته العلمية، يتوافر على نزعة تكاد تكون حالمة، يذكيها شغفه بالموسيقى والرسم والنثر الفني. يلحظ بين ما يلحظه أن اينشتاين كان من سادة النثر الألماني، وكذلك غاليلي في النثر الإيطالي، وابن الهيثم في النثر العربي. عاش هُمام في بيت العائلة في منطقة الرينبو - جبل عمان، لأب تقلّد الوزارة أكثر من مرة (الراحل بشارة غصيب) وشهد صخب الخمسينيات السياسي، غير أن النشاط السياسي لم يلق هوى في نفسه رغم متابعته الحثيثة له عبر الراديو والصحف وتحشدات الشارع. منذ وقت مبكر جمع بين نزعته العلمية وشغفه بالأدب والثقافة والفكر. أدرك كما يقول لمحدثه إن منزعه الشخصي للاستزادة من الثقافة، واختياره مستقبلاً أكاديمياً له، يفترق حكماً عن ولوج عالم السياسة. ربما كان للبيت.. بيت رجل دولة أثر في تنائي الفتى همام عن السياسة، وهو ما يستشفه السامع من حديثه. وكان يفترض وقوع عكس ذلك، لكن للسياسة في بلادنا أحكام..عرفية. وهناك من اقترح عليه الترشح لانتخابات نيابية تكميلية العام 1984 بعد عامين على وفاة الوالد، لكن همام اعتذر عن ذلك فقد كان طموحه نحو مكان آخر. يكن همام احتراماً عميقاً للوالد الذي مكن أبناءه من إطلاق مواهبهم، وتكفل بتعليمهم ووفر لهم مكتبة عامرة. في سنوات يفاعته أصدر همام مجلة "مرآة الطلبة" عن مدرسة المطران بكلفة 17 ديناراً دفعت الإدارة 15 ديناراً منها. وعكف منذذاك على قراءة مجلات أميركية مثل: "تايم" و"نيوزويك". اهتماماته الفكرية المبكرة دفعت معلم اللغة العربية في مدرسة المطران خلف حدادين، لوصف الفتى همام بـ"الفيلسوف الصغير". يستذكر أبو الحارث هذه الواقعة بحنين وانتشاء، يعادل ارتياحه لجوائز علمية حظي بها : جائزة فولبرايت، وجائزة عبدالحميد شومان للعلماء العرب الشبان، وجائزة مؤسسة الفكر العربي في بيروت للمبدعين العرب. نال درجاته العلمية تباعاً حتى الدكتوراه من جامعة مانشستر (1974). تخصص في الفيزياء النظرية، وهو تخصص شبه نادر والتحق بالجامعة الأردنية منذ 33 سنة. بعد مضي عشر سنوات نال درجة أستاذ ويشرف على رسائل ومؤتمرات علمية. ويخوض في التحرير والنشر الثقافي: تولى رئاسة تحرير "المجلة الثقافية" الفصلية التي تصدرها الجامعة بين عامي 1989 و1998، وبقي بعدئذ عضواً في هيئة تحريرها حتى العام الماضي، حين تم "إقصاؤه "دون إبلاغه شفاهياً أو كتابة بالأمر. لا يقيم فاصلاً بين العلوم المجردة والإنسانيات والفنون، بل يراها روافد تجمع بين فتوحات العقل وثمرات الوجدان، وتتكامل معاً لبناء صرح المعرفة. تشبعه برؤى نهضوية، قاده للانفتاح على شتى مناحي الفكر. انضم عضواً بمجمع اللغة العربية وكان في الخامسة والثلاثين من عمره.. بعدئذ جرى تغيير نظام المجمع بحيث لا يلتحق به من لم يبلغ أربعين سنة شمسية. يعتز أيما اعتزاز بعمله في ظل الأمير الحسن، مستشاراً ونائباً لأمين عام منتدى الفكر العربي الذي يرعاه الأمير.. "أعتز كثيراً بعملي مع الإنسان النبيل سمو الأمير الحسن، الذي يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول. واستطاع أن ينتصر على كل هوى في نفسه بحيث أزال كل العوائق بينه وبين الآخر"، كتب همام ذات مرة. وضع كتابين هما "السندباد الفيزيائي ونظرية اينشتاين"، و"الكراسة القرمزية ـ تأملات عابر سبيل" فضلاً عن عشرات الأبحاث والدراسات في مجلات أجنبية. لا تسره الحال الفكرية السائدة في الديار. يشكو من غياب حركة نقدية ناضجة، ومن نقص العنصر التراكمي للعمل الفكري والثقافي، وظهور حالات انقطاع وفجوات، بحيث يبدو المشهد أمام الأجيال الجديدة، على الأقل، وكأننا ندور في حلقة مفرغة ونبدأ دائماً من نقطة الصفر. يلاحظ في الأثناء منحى غير موضوعي، في تلميع أسماء والتعتيم على أسماء أخرى. يلحظ أيضاً ما تتسم به حياتنا من باطنية (ازدواجية) ومن ميل النخب للاستعراض والمظهرية. على مستوى عربي أعم يرى ركوداً وجموداً، وحتى خوفاً من التجديد الذي لا يعني الانقطاع على التراث، بل التواصل الحي مع حركته والتفاعل في الوقت ذاته مع ثقافات وحضارة العصر. خلاف ذلك نتقدم خطوة وننكفىء خطوتين. المخرج برأيه في تأصيل العلم وتوطينه ابتداء من المدرسة، تعظيم قيم الإنتاج العقلي والمادي بدلاً من الاستسلام للاستهلاك، والإيمان بالحاجة الدائمة للتطوير ومواكبة العصر. وفي رأي غصيب أن الارتقاء الحضاري تم أساساً بفضل التطوير لا التثوير. لا يوفر همام غصيب ذات نفسه من "النقد". يفاجىء سامعه بالقول : "لست راضياً عن نفسي. الرضا عن النفس يعادل الإنطفاء. فما أنجزته يقصر عن طموحي وعما أراني مؤهلاً له. كل يوم جديد يشكل تحدياً وفرصة، فأباشر اليوم الجديد كمن يخوض معركة أو تجربة جديدة، كل محاضرة كل بحث كل كلمة تصدر عني، ينبغي أن تحمل معنى أو إضافة أو رؤية واستشرافا لرؤية". |
|
|||||||||||||