العدد 47 - أردني
 

محمود الريماوي

يصف ناشط سياسي معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، بأنها ليست سلاماً دافئاً ولا بارداً، بل هي سلام جانبي وموقوف. القياس بدرجات الحرارة أو البرودة حسب الناشط الأردني، ليس صالحاً لرصد مفاعيل المعاهدة، التي تحل هذه الأيام ذكراها الرابعة عشرة.

الطرفان الموقعان يجهدان منذ العام 1994 للظهور بصورة الحريص على تطبيق المعاهدة، والبرهنة على حسن النوايا السلمية، لكن جمهور الطرفين اكتفى بأخذ العلم بأن معاهدة قد وقعت بعد 46 عاماً من حالة الحرب، فضلاً عن قطاعات أهلية تعارضها بعضها في المجتمع الإسرائيلي وأكثرها في المجتمع الأردني.

هناك حركة سياحة وبخاصة من الجانب الإسرائيلي نحو الأردن، لكنها تظل محدودة ورمزية، فلا يمكن لحركة سياحية أن تنشط مع عدم تقبل شعبين لبعضهما بعضاً. وهناك تبادل تجاري يتم لأغراض تجارية خالصة، لكن المستوردين والمستهلكين في الأردن مثلاً، لا يتصلون أو يتواصلون مع نموذج حضاري وإنساني يكمن وراء السلع المستوردة، كما هي حال المستورد والمستهلك مع السلع الصينية، والتركية، والأوروبية، والأميركية، التي تملأ الأسواق، حيث يتم التواصل الذهني والوجداني مع المنتجين والمصدرين. كلما كانت السلع غفلاً من بلد المنشأ الإسرائيلي، كان ذلك أفضل للمستهلك الأردني، وهو ما يفسر رواج بعض منتجات الفواكه الإسرائيلية التي لا علامة تدل على منشئها، كما يفسر الحملة النقابية والحزبية الأخيرة على تلك المستوردات، حيث تفادى المستوردون الرد على الحملة بداعي الحرج وليس لأي سبب آخر.

ذلك يشبه مجرد شبه التبادل بين الضفة الغربية وإسرائيل. هناك أرض فلسطينية محتلة يحتلها الطرف الذي يتم التبادل التجاري معه بحكم الاضطرار. في الحالة الأردنية هناك أرض استعيدت للسيادة وإن كانت ما زالت بحوزة الطرف الآخر ينتفع منها وسيظل كذلك حتى مضي 25 عاماً على المعاهدة، غير أن التبادل يتم هنا بحكم إبرام المعاهدة فقط، لا تعبيراً عن رغبة بالتواصل أو انسجاماً مع مقتضيات الجوار.

بهذا احتفظت حلقة التسوية الإسرائيلية الأردنية بطابعها كسلام جانبي موقوف رغم التعاون الرسمي المتبادل. لم تنشأ هذه الحالة من فراغ فالمعاهدة وثقت سائر أشكال التعاون المزمع، ولا هي تعبر عن عداء مستحكم كما يطيب للبعض هذا التفسير. السر المكشوف يكمن في أن الدولة العبرية لم تتحول بعد المعاهدة وبعد كامب ديفيد المصري وأوسلو الفلسطيني، الى دولة مسالمة.

النزعة التوسعية بقيت على حالها، والجموح الى الحرب اشتد، جريا على سلوك ثابت وعلى وصية أطلقها «موشي ديان» وزير الدفاع الأسبق، بأن "تحتفظ الدولة العبرية على الدوام بصورتها ككلب مسعور يخشاه الجميع". السابقة الوحيدة المتمثلة برابين تم إجهاضها واغتيال صاحبها أمام الملأ، وهو الذي وقع الأردنيون والفلسطينيون اتفاقيات معه (مع حكومته).

في ما خص الأردن، ثمة قائمة شواهد على التنصل الإسرائيلي من موجبات المعاهدة.

ـ قضت المعاهدة بالشروع في بحث قضية نازحي العام 1967. عقدت خلال عامين بعد توقيع المعاهدة اجتماعات متفرقة في القدس وعمان والقاهرة بمشاركة أردنية مصرية فلسطينية، ثم شرعت تل أبيب تتلكأ بالمشاركة في الاجتماعات، وتبعيد مواعيد عقدها، حتى طويت صفحتها.

ـ نصت المعاهدة على دور جوهري للأردن في رعاية الأماكن الدينية المقدسة في بيت المقدس. جرى "السماح" فقط ببعض عمليات إعمار الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، فيما سمح المحتلون لأنفسهم، بالحفريات تحت الأقصى وبناء كنيس يزاحم الأقصى، والتنكيل بالسدنة ورجال الدين والمصلين.

ـ نصت المعاهدة على إيجاد منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. والحال أن تل أبيب ترفض مجرد فتح ملفها النووي، أو الحديث بشأنه أو التوقيع على معاهدات حظر انتشار الأسلحة غير التقليدية. هذا التنصل يفتح الباب أمام تسابق نووي في المنطقة وقد فتحه، كما في الحالة الإيرانية رغم غموضها حتى الآن.. علماً بأن الغموض المتعمد هو وصفة إسرائيلية في الأساس.

ـ انتهكت إسرائيل السيادة الأردنية بمحاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن خلافاً لمنطوق المعاهدة. حدثت في المقابل واقعة الجندي الدقامسة.هذا الجندي قيد الاعتقال وصدر ضده حكم قضائي، بينما لم يتخذ من الجانب الإسرائيلي أي اجراء ضد مستهدفي مشعل.

ـ تتلكأ الجانب الإسرائيلي في إقامة مشاريع منصوص عليها كخط سكة حديد ومطار في العقبة.

ـ قضت المعاهدة بعدم السماح بتحركات قسرية للسكان بما يؤثر على الطرف الآخر.والقصد من العبارة الحؤول دون قيام ظروف تؤدي لتهجير قسري. بناء جدار الضم والتوسع في قلب الضفة الغربية المحتلة، أدى لدفع أبناء الضفة لتحركات قسرية داخل وطنهم. لولا تمسك هؤلاء بأرضهم ولولا الإجراءات الأردنية لأدى السلوك الإسرائيلي التوسعي لمثل هذه التحركات القسرية تجاه الشرق (الأردن).

ـ اتفق الطرفان في المعاهدة على "مكافحة الإرهاب" وتواصل في الأثناء استهداف المدنيين، والأشجار، والبيوت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بممارسات إرهابية مشينة من المستوطنين والجيش والشرطة الإسرائيلية.

ـ قضت المعاهدة بضبط التسلح وإحلال الأمن الإقليمي. من الواضح أن الجانب الإسرائيلي نظر منذ البدء الى تلك الفقرة،على أنها مجرد ديباجة لفظية. فالدولة العبرية دأبت على بناء وتعظيم بناء قلعتها المسلحة، كما دأب الملك عبدالله الثاني على إطلاق هذا الوصف. وفي الأثناء، فإنها تراقب مراقبة حثيثة بناء القدرات الدفاعية لدول المنطقة، بما فيها الأردن. ولا تتوانى عن الاعتراض على بعض الصفقات.

ـ قضت المعاهدة برفع الإشارات التمييزية والتعبيرات العدائية في التشريعات والمطبوعات الحكومية. لم يرشح منذ 14 عاماً وحتى يوم الناس هذا، أن الجانب الإسرائيلي قام بأي تعديل في المناهج التعليمية، أو في إرشاد جنوده حول النظرة الى العرب وغير اليهود، ومنهم الأردنيون.

هناك جوانب تفصيلية عديدة في المعاهدة لم يتم الوفاء بها،وفي أغلب الحالات من طرف الإسرائيليين.

الانطباع في أوساط النخبة الأردنية، كما في عموم المجتمع السياسي الأردني، أن تل أبيب ترى كل الأمور من منظور أمني، يتعلق بالحالة الاستيطانية والتوسعية.. بأمن الاحتلال، لا أمن الدولة التي قامت العام 1948 على أرض فلسطين، وواظبت على دعوة جيرانها للتفاوض معها والاعتراف بها. وهو ما يجعل المؤسسة الإسرائيلية تقرأ المعاهدة قراءة أمنية، مع الإغفال المتعمد للحاجة لاستكمال المعاهدة بحلقات أخرى، وعلى الأخص تمكين الفلسطينيين من الاستقلال وإقامة دولتهم على أرضهم المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967.

التزام الإسرائيليين وخاصة القوى اليمينية الأكثر نفوذاً و"جماهيرية" بنصوص وروحية المعاهدة، أمر لن يتحقق بإطلاق المناشدات أو بمجرد إجراء حوارات معهم. كانت وما زالت هناك حاجة لاتخاذ مواقف رسمية نقدية وحازمة من السلوك الإسرائيلي، دون الإضرار بالتزامات الأردن الدولية. سابقة الموقف الأردني النزيه والشجاع من جدار الضم والتوسع، تستحق البناء عليها وعدم الركون لمقولات "إنها أثارت حفيظة الإسرائيليين". واقع الحال أن السلوك الإسرائيلي المستقر والروتيني، حيال قضية السلام والكرامة البشرية وحقوق الإنسان والشعوب، يهدد مستقبل المنطقة ويفتح الأبواب وقد فتحها أمام كل مظاهر التطرف، ويثير أقصى درجات القلق لدى كل نصير للعدالة.

14 عاماً على المعاهدة الأردنية الإسرائيلية : سلام موقوف بانتظار خروج الإسرائيليين من منطق “القلعة”
 
16-Oct-2008
 
العدد 47