العدد 46 - رزنامه
 

السجل - خاص

"الهجرة إلى الواقع" عنوانُ معرض التشكيلي العراقي بلاسم محمد الذي افتُتح على غاليري دار الأندى أخيراً. لكن زائر المعرض سيفاجأ باختفاء هذا العنوان لصالح لوحة كبيرة تقارب الكاريكاتير وُضعت عند مدخل الصالة تجسّد أجواء ما يمكن تشبيهه بـ"مصحة عقلية".

تتضمن اللوحة/المدخل مجاميعَ بشرية تطلق هلوسات وتتلفظ بجمل غير مترابطة تتكرر فيها مفردات مثل: دبابة، صاروخ، قتل، التهام، هجوم.. تعبيراً عن واقع قاسٍ وبشع يعيشه شعب العراق منذ عقود، وهو واقع فانتازي وغرائبي فيه من الأحداث ما لا يتقبله العقل، ولا يخضع لمنطق. وهو الأمر الذي دفع الفنان ليخطو خارج هذا اللاواقع مهاجراً إلى واقع يبحث عنه دون أن يتمكن من العثور عليه.

في المعرض أربعون لوحة تتنوع أحجامها بين الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، نُفّذ معظمها بتقنية قلم الفحم والألوان المائية، وإن كان ثمة لوحات استُعمل في إنجازها الألوان الزيتية التي بدت نافرة من سطح اللوحة.. الأسود هو سيد الفضاء التشكيلي في المعرض، يتغلغل بين ثناياه لون أو اثنان على الأكثر، تجسيداً لأشكال تجريدية لرجال ونساء وأماكن يُفترَض أن يجد المرء فيها راحته وطمأنينته؛ أماكن كانت في زمن ما مخصصة للمرح واللهو والتسلية.

ينزع الفنان عن هذه الأماكن صفاتها تلك. نافذة البيت الصغيرة والمرتفعة تبدو في لوحاته كوّةَ معتقل أو ربما تحيل إلى سجن مرعب، فيما المقهى ينزّ دماً من المقاعد المتوزعة في أرجائه، أما الشارع فيختنق بأشباح بشرية تتطلع بذهول وأسى.. لا فرق بين مكان مفتوح وآخر مغلق. جميع الأمكنة في لوحات بلاسم محمد غاصّة بالاختناق.

الإحساس العام بأجواء المعرض يبلغ مداه عندما تصطدم عينُ المشاهد بتلك اللوحات التي يبدو أن الفنان أودعها تشكيلاته، ثم قام، مرة واحدة، بشطب كل ما رسم باستخدام خطوط عشوائية داكنة تغور خلفها تفاصيلُ المشهد لتبرز الخطوط بقوة على السطح، فتثير في النفس مشاعرَ القلق والخوف وتؤكد عبثية الواقع. ما يمكن أن نتعرفُ إليه في اللوحة نزرٌ يسير لِيَدٍ تُركت هنا، أو رأس يطلّ من هناك.

بالتركيز على جموع بشرية حيناً وعلى أفراد حيناً آخر، يحضر الجسد ليكوّن مركز اللوحة، لا من خلال تفاصيله الدقيقة وملامحه المحددة، وإنما من خلال الإيحاء بشكله الإجمالي المجرد، ليتحول بذلك إلى رمز للإنسان المتعَب الذي يعاني حالةً من التشرذم والضيق والتقييد، بخاصة في تلك اللوحات التي تتراكم الأجساد فيها أو تلتفّ بعضها على بعض، أو تسير بصفوف غير منتظمة متجهةً إلى قِبلة لا تعرفها، وربما لا يعرفها أو يمكن أن يحدس بها أحد.

لوحات بلاسم محمد المولود في الكوفة العام 1955، والحائز على دكتوراه في الفلسفة، لا تشرح أو تقول، وإنما تُري المآسي التي يمر بها العراق.. المعاناة بصورها شتى تتجلى هنا بريشة فنان مؤمن برسالة الفن، ودوره في التعبير عن الواقع وإطلاق المخيلة من مكامنها.

“الهجرة إلى الواقع”: السير إلى قِبلة مجهولة
 
09-Oct-2008
 
العدد 46