العدد 46 - حتى باب الدار
 

إذا كان الكلام من فضة فـ«التصريح» من ذهب.. ومن يدري؟ قد نكون فعلاً في عصر «التصريحات» الإعلامية.

التصريح هو صنف خاص «رسمي» من الكلام موجه للعامة يقوله الشخص بصفته صاحب موقع أو منصب معين، أي بعد أن يتجرد من شخصيته العادية، وعادة ما تجد الواحد من هؤلاء ينبه سامعيه: أنا هنا أتحدث كمواطن عادي، ثم ينتقل فيقول أما الآن فأنا أتحدث بصفتي كذا وكذا..

الظاهرة حديثة الانتشار في بلادنا، وقد ارتبطت بنشوء الديمقراطية فيها، فلم يكن الرسميون في السابق يكثرون من الكلام الموجه للعموم. وقلة كلامهم كانت توحي بالغموض الضروري لممارسة المسؤولية، فالمسؤول كان يستمع الى الناس يتحدثون ولكنه لا يفعل مثلهم، فالناس يتحدثون «مِنْ وَسَع» أي كما يشاؤون، يشرقون ويغربون، لأنهم لا يعلمون ما يعلمه، وهم «يهرفون بما لا يعرفون»، أما هو، فلكثرة ما يعرف، فإن كلامه لا بد أن يكون موزوناً لأن له تبعات، وكان كل ذلك يأتي في سياق سعي المسؤول كي يبقى «محشوماً».

كان المسؤولون مغرمين بترديد عبارة «إنجازاتنا تتحدث عن نفسها»، وهذا يتضمن أن قلة الإنجازات تعني قلة الحديث عنها، ولا ضير في ذلك، ففي الحالتين فالمسؤول نفسه لم يكن يتحدث كثيراً.

الواقع أن منابر الحديث كانت قليلة، ولم تكن في الأساس مخصصة لحديث المسؤولين..

ولو أتيحت لأحدنا اليوم فرصة تصفح صحيفة تعود الى ما قبل التسعينات، لاكتشف مفارقة لافتة، فعدد صفحات أي صحيفة لم يكن يتعدى عشراً أو اثنتا عشرة، ومساحة كلام المسؤولين فيها قليلة، وحتى في التلفزيون، فما عدا نشرة الأخبار كان البث مخصصاً للترفيه، والمعروف أن الترفيه والكلام الرسمي خصمان.

في السنوات الأخيرة تزايد منتوج الكلام الرسمي، وصار الكلام حول أمر ما يتساوى في قيمته مع الأمر نفسه، فالحكومة عندما تقول: «لقد أعلنا موقفنا من قضية ما» تشعر أنها أدت واجبها، مهما كان مصير تلك القضية. والوزارة أي وزارة، تعلن خطتها واستراتيجيتها، وتعقد الندوات وورش العمل، وتجري جولة لوسائل الإعلام وتعقد المؤتمرات الصحفية.. الخ، وتعتبر ذلك جوهر عملها، ويستغرب الوزير إذا سألته عما أنجزه، فيقول لك: ألم نعلن موقفنا ونطلع الجميع عليه من اللحظة الأولى؟.

حديث الإنجازات
 
09-Oct-2008
 
العدد 46