العدد 46 - حريات | ||||||||||||||
محمد شما الفقر، وانعدام الأمن، والبحث عن لقمة عيش كريمة.. هذا ما يدفع كثيراً من الشبان من الدول النامية، وبخاصة العرب في الشرق الأوسط وإفريقيا، للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، أملاً في «حياة أفضل، واحترام أكبر لحقوق الإنسان». المفارقة أن قسطاً وافراً من هؤلاء الباحثين عن استقرارٍ ينشدونه -وربما لا يتسنى لهم ذلك- ينتمون إلى بلدان بعضُها غني بثرواته وموارده النفطية وسواها، لكنها أيضاً المقيدة بأغلال الفساد الذي تنعدم معه العدالة الاجتماعية، وتغيب بوجوده فرص تمكين الشبان وإطلاق طاقاتهم واستثمارها، فضلاً عن الحروب ودوامة العنف التي تدفع الكثيرين للبحث عن مكان آمن ينامون فيه دون أن يقضّ مضاجعهم أزيزُ رصاص، أو دويُّ قنبلة، وإن كان ثمن ذلك أوضاعاً معيشية متدنية تنتظرهم لا محالة، هم الذين لم يعتد بعضهم على قسوتها. ولاية «نورداين فيستفالن» (شمال الراين) إحدى أكبر الولايات الألمانية في الكثافة السكانية، تحتضن كثيراً من المهاجرين غير الشرعيين، وبخاصة العرب. يشكل المواطنون من أصول أجنبية في ألمانيا نحو خُمس عدد السكان، وتتفاوت فرصهم في الحصول على عمل وفقاً للشهادات والخبرات التي تحصلوا عليها. محمود عواد، لاجئ فلسطيني من لبنان، عاش في أزقة مخيم لا مكان فيه لاحترام إنسانيته، ما دفعه للبحث عن طريق للخروج من هذا الوضع. زاد من إصراره على مغادرة لبنان قرار السلطات هناك بمنع اللاجئين الفلسطينيين من العمل في أكثر من 78 مهنة.. وكان الخلاص بالهجرة رغم إدراكه أن أبواب اللجوء مغلقة في وجهه. «هكذا وجدتني مضطراً لسلوك طريق غير شرعية». الطريق إلى ألمانيا حيث إقامته كلاجئ غير شرعي، لا تتشابه مع وقائع ما حدث مع بطل رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. فهي أقل حدة وأخف وطأة، والظرف والمكان مختلفان أيضاً. بدأت رحلة محمود من لبنان مروراً بسورية ثم تركيا. «إذا كنت مقلوعاً من بلدي، وأعيش في بلد يرفض الاعتراف بي كإنسان، ماذا يبقي لي؟»، يقول وهو يسرد تفاصيل رحلته.. «طريقي كانت صعبة جداً. كنا أربعة شباب، أنا الفلسطيني الوحيد بينهم، والبقية لبنانيون. داخل صندوق شاحنة انتقلنا عبر سورية إلى تركيا، في رحلة صعبة ومعتمة، لم نر الشمس لأيام، ولم نأكل سوى ما يرمونه لنا من فتات. هذه الحصص كانت ضمن المبلغ الذي دفعناه ويتجاوز الألفي دولار للشخص». محمود كان محظوظاً مع آخرين تم تهريبهم عبر شاحنة محملة بالبضائع، فبعد ليال عدة تفرق الأربعة كلٌّ إلى جهة مختلفة، حيث طلب كل منهم اللجوء إلى دولة أوروبية تقبل به لاجئاً. محمود في ألمانيا حالياً.. «لا تستهويني الهجرة غير الشرعية، وأكره الأوضاع السيئة التي أعيشها. ما أنشده أن أكون محترماً، وأن يتعامل الناس معي كإنسان». تمت الرحلة عن طريق سمسار معروف داخل مخيم شاتيلا، يتقاضى زهاء ألفي دولار، لتأمين تهريب الشاب الواحد كالبضائع بوساطة شاحنة تركية في الغالب». هرب محمود من واقع شعر فيه أنه لم يعد مقبولاًَ كإنسان. ومثله وصل الصومالي ناصر عبدالله لألمانيا بدعم من أقارب ساعدوه بما يملكون هرباً من واقع مظلم، وما إن حطت الطائرة به حتى اصطدم بحياة ناقضت الحلم، «لم يكن في جيبي مال، فالعائلة ساعدتني على الرحيل الشرعي فقط». ناصر يواجه محذور الإقامة غير الشرعية في ألمانيا، بعد أن أنفق على الرحيل مبلغ ألفي يورو، هو كل حيلته. يقول ناصر: «للصومال خصوصية قاتلة تقول لمن يحب الحرية: اهرب من هنا. لا شغل، لا حياة، لا طعام، ولا مستقبل. بلدي يعاني الجوع والتخلف والأمية، وقبائل تقتل من تشاء تحت مبررات مختلفة، ومع كل هذه الحياة هناك من يسألني: لماذا هربت!». لكن حال الكردي العراقي حلمي عمر، كان «أقسى» بحسب ما يرى. فالحرب شكلت دافعاً كبيراً له ليترك ما بقي له. دفع حلمي سبعة آلاف دولار لأحد المهربين، وتم نقله بسيارته التي كانت جزءاً من المبلغ المقدم باتجاه تركيا. من هناك وبمساعدة مهربين قصد ألمانيا في رحلة استغرقت 13 يوماً. كانت رحلة معاناة وموت يومي، على حد وصف حلمي.. «لا أستطيع البقاء في بلدي الذي فقد الأمن، وفعلَ الموت اليومي فعله بعائلتنا وجيراننا. الحلم قتله الاحتلال الأميركي، والعراقي كذلك، والحياة السعيدة لا وجود لها إلا في كتب المدرسة الابتدائية». الهجرة غير الشرعية، تنجم عن فقدان الأمل، ورفض المفوضية السامية للأمم المتحدة طلبات اللجوء، «لعدم اقتناعهم بملفاتنا»، يقول حلمي. الفلسطيني محمود لم يتمكن من الحصول على عمل في لبنان، وتوفي والداه وشقيقه، وتزوجت شقيقاته، فكان خلاصه بالهجرة. «لماذا أعيش في مكان لم يبقَ لي فيه أحد؟». كانت الهجرة بطريقة غير شرعية هي الحل، بعد تقديمه الكثير من طلبات الهجرة لأجل اللجوء. والنتيجة كانت دائماً «مرفوض». الصومالي ناصر هرب هو الآخر بحثاً عن حياة يتمتع فيها بالأمان والسلام، فقد قُتل والده جراء صراع قبلي حصد أرواح آلاف الضحايا في الصومال الذي يعاني مشاكل اقتصادية كبيرة وانفلاتاً أمنياً. «لا عدالة أو قانون. لا شيء في الصومال يجعلني أفكر بالبقاء». هذه الحال تنطبق على الكردي حلمي أيضاً، هو الهارب من السليمانية شمالي العراق خوفاً من حرب دامية لا تتوقف.. «من يحتمل الحرب، من يحتمل قتل الشباب، من يحتمل صوت القذائف والمدافع والصراخ الهستيري؟» يتساءل بحسرة من يعرف الجواب مسبقاً. تستقبل الدول الأوروبية آلاف اللاجئين غير الشرعيين سنوياً، وقد اضطرت للاتفاق على صيغة تنسيق ما بينها، لإقامة مخيمات لهؤلاء اللاجئين، والنظر في أوضاعهم الإنسانية.. ودعت منظمة «بروزاول» الألمانية إلى وقف ترحيل اللاجئين إلى بلادهم، وتحديداً العراق وأفغانستان وأقليات من كوسوفو. ولفت مدير المنظمة غونتر بوكهارت إلى أنه «يجب عدم ترحيل هؤلاء الأشخاص، وإنما تسوية أوضاعهم بشكل يوفر لهم الغطاء القانوني». كانت المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين طالبت الدول الأوروبية، وألمانيا تحديداً، بالاستمرار في نهج «أوروبا قارة اللاجئين، ويجب أن تظل كذلك». يخضع اللاجئ غير الشرعي في ألمانيا فور إعلامه السلطات بوجوده أو إلقائها القبض عليه، إلى تحقيقات مكثفة من لجان ومنظمات معنية بقضايا اللاجئين، يُحَدَّد بعدها وضعه، وما إذا كان يمكنه الحصول على حق اللجوء السياسي أو الإنساني أم لا. محمود كان بصحبة خمسين لاجئاً ينتمون لجنسيات مختلفة. لدى وصولهم إلى ألمانيا وُضعوا في غرف للاّجئين غير الشرعيين. «كنا مكومين فوق بعضنا بعضاً. كلنا كان يحلم بفرصة للنوم.. كانت تلك أوقاتاً عصيبة لا أريد استذكارها». بقي محمود مدة 45 يوماً في شوبنغ، ثم تم تحويله إلى كيرن القريبة من كولونيا، وأُعطي ورقة كُتب عليها «تحويل إلى دسلدورف». الآن يتعلم الألمانية في مدرسة خاصة، مدعوماً من «الاجتماعية» كما تسمى، وهي جهة تعني بدعم اللاجئين الأجانب. واقع المهاجرين غير الشرعيين يزداد سوءاً في كثير من الدول الأوروبية، ونصيب ألمانيا ليس قليلاً من أناس يهجرون أوطانهم لأجل لقمة العيش والحياة الكريمة ويصطدمون بما يشبه سجناً كبيراً، فلا يتحركون بحرية، ولا يعملون، ويتلقون معونات مالية بالكاد تكفي لسد رمقهم. تطالب جمعيات حقوقية ألمانية بضرورة «تحسين أوضاع اللاجئين، وإخضاعهم لتحقيقات يراعى فيها الجانب الإنساني»، انطلاقاً من الدستور الألماني الذي ينص على ضرورة احترام حقوق الإنسان في الحياة والرأي والتعبير والسكن والإقامة؛ وتوقيع ألمانيا على معاهدات جنيف الخاصة بحقوق الإنسان، وجملة مواثيق عالمية خاصة بحقوق اللاجئين، ولا سيما القادمون من دول تشهد حروباً وعمليات القتل وانعدام الأمن. ما إن يتم تصنيف القادم بـ«لاجئ سياسي» حتى يتم صرف مبلغ من المال شهرياً له على شكل «مساعدات». يحرم اللاجئ من العمل لعدم امتلاكه عقوداً ووثائق أو بطاقة إقامة، وتبقى المساعدات سبيله الوحيد للعيش. وإذا فكر في الالتحاق بعمل، فيتم ذلك عبر «العمل الأسود» غير القانوني ودون علم السلطات؛ كونه لا يخضع للضريبة التي تُفرض على العاملين في ألمانيا. يتفاوت المبلغ الذي تصرفه الولاية على اللاجئ وفقاً لوضعه ومدة مكوثه؛ وهو مبلغ غير منصف، ولا أسس معينة يتم اعتمادها عند تقديره، بحسب لاجئين. يشتكي اللاجئ الصومالي ناصر من قلة الراتب (200 يورو)، ويقول إنه لا يكفيه لشراء الطعام والدخان، ودفع تكاليف الطبابة كونه يعاني من أمراض.. «أشعر أنها للتدخين فقط، والمعيشة في ألمانيا مكلفة كثيراً، ولا يكفينا المخصص لآخر الشهر. لذلك أتشارك في علبة السجائر والطعام مع الآخرين لأجل الاستمرار في الحياة». الفلسطيني محمود يوافقه الرأي؛ فهو يتقاضى راتباً شبيهاً كل شهر. وقد وكّل محامياً -على حساب المساعدات الاجتماعية- لنيل استحقاق اللجوء، وليتمكن بعدئذ من العمل وتحصيل المال الكافي. ويشتكي الكردي حلمي، من قلة المال، وعدم قدرته على شراء ملابس بعدما ضاق بما يرتديه على الدوام، ويقول إنه دفع في النتيجة مبلغ 12 ألف دولار كي يعيش «حياة بائسة في ألمانيا». رغم معاناة اللاجئين، وسوء أوضاعهم المعيشية، تحتفل ألمانيا كل عام بيوم اللاجئ، بتكريس الجهود لتحسين أوضاع اللاجئين ومراعاة معاناتهم، وهو ما يراه اللاجئون مجرد «تجميل لا أكثر». تعدّ منظمة «كاريتاس» منظمة فاعلة في العمل التطوعي، وقد وجهت رسالة إلى اللاجئين في ألمانيا، داعية إلى تطبيق قانون «حق البقاء» الذي تم الاتفاق عليه في تشرين الثاني/نوفمبر 2006 والذي يتيح للأجانب الحاصلين على مهلة انتظار لسنوات طويلة حق البقاء في ألمانيا والحصول على بطاقة إقامة. خيار العودة بالنسبة للاجئين العرب في ألمانيا يبدو «مستحيلاً»، بحسب تعبيرهم. ما يتطلعون إليه «تقوية» لغتهم الألمانية، وأن يكونوا «تحت القانون» كي تأخذ إدارة الحكم المحلي «صورة إيجابية عنهم». |
|
|||||||||||||