العدد 46 - ثقافي | ||||||||||||||
رسمي أبو علي أثناء مشاهدة فيلم «الريّس عمر حرب» الذي يُعرض حالياً في دور السينما، يخطر في البال أفكار عدة، أولها الإحساس بأن فيلمَي»كازينو» و«ترومان شو»، كانا في ذهن المخرج خالد يوسف بشكل ما. تدور أحداث فيلم «الريس عمر حرب» كلها في كازينو للعب القمار، تماماً مثل فيلم «كازينو» الذي أدى دور البطولة فيه «روبرت دو نيرو». أما «ترومان شو» فبطله شاب يكتشف في نهاية الفيلم أن حياته كلها كانت مبرمجة ومراقَبة، وأن جميع الذين يحيطون به ليسوا إلاّ ممثلين لأدوار مرسومة، بمن في ذلك زوجته. وهو ما يجده المشاهد أيضاً في فيلم خالد يوسف. يكتشف الشاب خالد (أدى الدور هاني سلامة)، هو الآخر في نهاية الفيلم، أن جميع الذين تعامل معهم، متواطئين مع الريّس مدير الكازينو شديد الحضور والذكاء والدهاء والهيمنة المطلقة، الذي كان على علم بكل تحركاته أولاً بأول. يلتحق خالد بالكازينو بصعوبة، فهناك شروط صارمة جداً يضعها الريس عمر حرب قلما يجتازها أحد، ومنها أنه يجري امتحاناً شفهياً يسأل فيه طلاب الدورة عن الناتج الحسابي لعملية ضرب الرقمين 117 و13، أو 212 و25 مثلاً. وفي حال عدم قدرة الطالب على الإجابة فوراً، فإن الريس يصرخ في وجهه: «زفت، قطران». هناك شروط أخرى، أخطرها ما يجسده قول الريّس: «عليك أن تخلع كرامتك وكبرياءك قبل دخول الكازينو. هنا الزبون دائماً على حق، لأنه جاء ليخسر. حتى لو صفعك الزبون أو بصق على وجهك، يجب أن لا تقوم بأي رد فعل». بذلك، كان الدوس على الكرامة وعدم الإيمان بأية قيمة هو شرط النجاح في الكازينو، الذي يبدو المعادل الرمزي للحياة نفسها، إذ يدخلها المرء عرياناً، ويخرج منها عرياناً أيضاً. يناقش خالد يوسف في هذا الفيلم موضوع السلطة وآلياتها المدروسة بدقة شديدة، ويستعرض أوضاع النخبة الذين هم فوق القانون، مقابل 95 بالمئة من الناس العاديين الذين يعيشون بالخوف، ويتملكون الأثاث الذي يملأ بيوتهم لأنهم يخشون الفراغ، ولأنهم يجدون متعة في الإحساس بالامتلاك. هذه النظرية التي تشكل منطلقاً لفلسفة عمر الريس المثقف عازف البيانو، أليست نظرية «دو ستويفسكي» في إحدى رواياته؟ يحظى الشاب الوسيم والذكي، بحب الريس عندما يراه ويتوسم فيه الموهبة والاستعداد، وفي ما بعد يصارحه قائلاً: «لقد اصطفيتك، فأنت من حلمتُ أن يكون ابني، ولن يستطيع أحد مسّك ما دمتَ معي، مُوالياً لي.. هذا هو شرطي الوحيد». ولتأهيله وإعداده لتسلّم القيادة، فإن الريس يُدخل خالد في تجارب واختبارات قاسية، انطلاقاً من أن رجل السلطة يجب أن يمر في اختبارات تجعله صلباً في مواجهة أي موقف، حتى لو انطوى ذلك على إهانات تمسّ أعماق الكرامة. هكذا يبدأ الشاب في التعاطي مع أشكال مختلفة من الرجال، ومع نساء معظمهن على استعداد لبيع أنفسهن مقابل دولارات قليلة لاستئناف اللعب على طاولة الروليت. يلتقي المشاهد بنماذج طريفة داخل الكازينو، مثل «يحيى الدهان» رجل الأعمال والمليونير العراقي (يؤدي الدور بهجت الجبوري باقتدار وخفة دم لافتة). يخسر يحيى في إحدى المرات كل نقوده، فينفجر في وجه خالد ويبصق عليه. يحتوي الريس الموقف، طالباً من خالد عدم الرد، تطبيقاً للمبدأ الأساسي للكازينو المتمثل في أن الزبون على حق، لكن خالد يضمرها في نفسه، وبتخطيط مدروس وبرودة أعصاب يقوم بالانتقام من الدهان بعد إتقانه «قواعدَ اللعبة». يكتشف خالد بالصدفة أن الريس يتدرب سراً على إحدى طاولات الروليت ليتمكن من تحديد الرقم الرابح: يضمر رقماً، ثم يرمي كرة الروليت الصغيرة، فتستقر في الرقم الذي أراده.. وهكذا يعرف السر الذي يجعل الريس متحكماً بالكازينو كما يشاء، يخسَّر من يشاء، ويربّح من يشاء، ويتلاعب ويتسلى أحياناً. ولأن خالد سائر على خطوات الريس، فإنه يشتري طاولة روليت للتدرب عليها سراً، إلى أن يتقن اللعبة تماماً، ليهتف بعدها: «أنا الحظّ.. أعطي من أشاء وأحجب عمّن أشاء..». لقد بلغ هو أيضاً أعلى مراتب السلطة. تكشف مجريات الفيلم أن الريس كان على علم بتحركات خالد. كما يتضح أن جميع من في الكازينو متعاونون ومتواطئون مع الريس المتحكم بقبضة حديدية بكل ما في الكازينو من رجال ونساء. المخرج خالد يوسف، أقرب تلاميذ يوسف شاهين إليه، عمل معه سنوات طويلة، وأنجز معه آخر أفلام شاهين «هي فوضى»، الذي قيل إن خالد قام بالجهد الأساسي فيه، لأن شاهين كان مريضاً. شاهين، كان سينمائياً ملتزماً، وإن على طريقته. كان مسكوناً بالهم السياسي والاجتماعي، إضافة إلى الهموم الذاتية. وكان المتوقَّع أن يسير تلميذه على النهج نفسه. لكن خالد يوسف يفاجئ الجمهور في فيلمه الأول بعد شاهين (الريس عمر حرب) أنه ذهب تماماً إلى عكس منهج أستاذه، ممجداً الفردية والحلم الفردي وحتى السلطة على حساب الناس أو الجماهير، بل لا يبدو أنه بصدد إدانة الريس أو تلميذه على فلسفة الحياة والسلطة التي يتبعانها.. في نهاية الفيلم هناك إيحاء بأن خالد الشاب ينوي أمراً ما.. انقلاباً ما ضد معلمه. إذ ربما يذهب إلى أبعد من إدارة كازينو، وربما يصبح رئيس عصابة مافيا أيضاً. ولِمَ لا؟ فهل سار خالد يوسف كل هذه السنوات مع شاهين لينشقّ عنه في أول فرصة.. هل نحن أمام «جريمة» قتل الأب مرة أخرى؟ الفيلم جيد تماماً من ناحية التصوير والتمثيل وحركة الكاميرا وغنى عالم الكازينو وتنوعه المذهل في هبوطه الإنساني. ويتألق فيه الممثل خالد صالح، الذي صعد من صفوف الكومبارس بعد عشرين عاماً ليأخذ فرصته الآن، ويصبح من ألمع نجوم السينما المصرية. |
|
|||||||||||||