العدد 46 - ثقافي
 

هيا صالح

يدفع "مشروع النكبة" الذي وُلِد من رحمه العملُ التركيبي "عودة الروح"، باتجاه أسئلة مفتوحة تتعلّق بمصير اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على ترك قراهم ومدنهم في العام 1948 تحت وطأة المذابح والمجازر الصهيونية التي لم تُبقِ ولم تذر.

صاحبة المشروع الذي تستضيفه في عمّان مؤسسةُ خالد شومان – دارة الفنون، بدءاً من السبت (11/10/2008)، الأسكتلندية جين فريري، تروي هنا، أو تعيد رواية المأساة الفلسطينية، لكن بعيون غربية هذه المرة. وثمة أملٌ يحدوها لأن تنجح في نقل معاناة الفلسطينيين وعرضها على حقيقتها أمام "الآخر"، مستندةً إلى الإيحاء والتفصيلة الإنسانية الصغيرة، ومتوقِّعةً الكثير مما يمكن أن يتمخّض عن السؤال المستفِزّ الذي يتلبّس المُشاهد وهو يجيل نظره محاطاً بمجسّمات لجموع مُهَجَّرة جرى تجسيدها بشكل رمزي، بما يقود إلى تخطّي حاجز الصورة النمطية المتشكلة لدى الغرب عن العرب وعن قضيتهم، وتقليص المسافة بين موقف الغرب السياسي وموقفه الإنساني لصالح الأخير.

"العديد من الغربيين لا يعرفون حتى ما معنى كلمة (نكبة)"، تقول فريري، وتضيف: "حاولت أثناء عرض المشروع في أدنبرة أن أكتب هذه الكلمة مراراً.. شارحةً ومفصّلةً وموضّحةً هذا المصطلح الذي نحته الفلسطينيون لوصف تهجيرهم الجماعي القسري عندما استُخدمت القوة لطردهم خارج وطنهم سنة 1948».

فريري ارتأت وسط ظروف معقدة، النأيَ بمشروعها عن أن يكون سياسياً مباشراً، واكتفت بالاشتغال على جانب تراه أكثر بلاغةً وأشدّ تأثيراً: إنجاز عمل فني محمّل بالحكايا الإنسانية في مخيمات اللجوء التي عايشت الفنانة ساكنيها لشهور عدة.

في «عودة الروح» يمثل كلُّ مجسم من المجسمات الشمعية فرداً ممن عاينوا النكبة وشهدوا أحداثها، فرَّ حاملاً ابنه أو سلّته أو صرّة ملابسه أو مفتاح بيته الذي تحول إلى رمزٍ لحقّ العودة.. ومهما يكن من اختلافٍ بين ما حمله اللاجئون معهم، فإنهم يتشاطرون جميعاً حالةً واحدة من الضياع والتخبط في «اللازمان» و«اللامكان».. هذا ما دفع فريري ليكون هيكل عملها أكثر من 3 آلاف مجسم شمعي يمثلون اللاجئين، معلّقين في السقف، بحيث تبدو الموجة البشرية المتشكلة منهم في وضع طيران. يكفي المشاهد حينئذ أن يتأمل هذه الحالة من التأرجح، ليتخلّق لديه الإحساس بفداحة ما حدث. تقول فريري: «إذا انتُزعت الأرض من تحت أقدامك، وقُطعت جذورك عن المكان الذي تنزرع فيه، فإنك لا بد ستبدو هائماً، وستظل روحك معلقة في برزخ بين الجنة والجحيم، لا تستقر على حال، ولا تركن إلى سكينة أو طمأنينة ترنو إليها»..

الحزن والتوهان قاسمٌ مشترك بين تلك الجموع الشمعية التي تبدو كأنما تسير في كل اتجاه، وفي اللااتجاه في آن، ما يشير إلى فقدان البوصلة. هذا الإحساس تعززه الكيفية التي تتدلى بها الجموع. شبكةُ أسلاك مثبتة في السقف تنزل منها خيوطٌ شفافة ينتهي كلٌّ منها بمجسم متأرجح. وكيفما تحركت المجسمات التي تم تسليط إضاءة شاحبة عليها، فإنها ستُصدم بحائط أبيض مُصْفَرّ كلون الشمع الذي يغطيها، دلالةَ ما يعيشه الفلسطينيون من معاناة نازفة.

إنها فلولٌ شمعية، آثرت فريري التي درّست تصميم الأزياء في المسرح والسينما في معهد الفن ببورن ماوث، وحاضرت في مساقات تصميم المسرح بإنجلترا وأسكتلندا، أن لا تتركها قواقعَ فارغة، بل نفثت فيها الحيوية عبر منْح كل مجسم هويته وملامحه الخاصة.

وأكثر من هذا، عمدت الفنانة إلى إشراك شباب فلسطينيين في المخيمات التي زارتها وأقامت فيها، في تنفيذ المجسمات وإنتاجها. وجرى جمع معلومات وشهادات شخصية من الذين عايشوا النكبة، وتعليقها بجانب المجسمات الشمعية، إضافة إلى مقابلات مصورة بالفيديو أُجريت مع عدد منهم، استحالت باشتغالٍ فني مدروس إلى منحوتة صوتية استُخدمت كخلفية لموجودات المعرض الأخرى. فبدا كأنما لكل مجسم هويةً خاصة ومكاناً واسماً وصوتاً وحكاية وروحاً تتوق إلى العودة للمكان الذي انُتزعت منه عنوة.. وفي النهاية يشير المعرض بكل ما فيه إلى جزء من ذاكرة جمعية للفلسطينيين مرتبطة بأحداث سنة 1948 العصية على النسيان.

ما يميز «عودة الروح» أن أثره لا ينتهي بعد عرضه. ينتقل المعرض من محطة إلى أخرى، لتنضمّ إلى المجسمات السابقة أخرى جديدة يجري تنفيذها بأيدي شباب من أبناء المخيمات. فمن بيروت انتقلت المجسمات لتُعرض في أدنبرة، وبعد عرضها في القدس رحلت إلى عمّان لتنضمّ إلى مثيلاتها من مجسمات صنعتها أيادٍ فلسطينية في مخيم الزرقاء، بما يمنحها سمةً واقعية. كما هم الفلسطينيون الذين غادر منهم ما يقارب 800 ألف أراضيهم على إثر النكبة، أورثوا لقب «لاجئ»، لأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يتوزعون الآن في شتى أنحاء الأرض، فإن مجسمات الشمع هي الأخرى تتكاثر وتطوف أرجاء العالم بحثاً عن استقرار ترنو إليه.

المستقَرّ لن يكون إلا بالعودة إلى الوطن، هذا ما تؤكده فريري، وهو الأمر الذي ستحققه المجسمات الشمعية التي ستحطّ في نهاية المطاف في القدس، حاملةً معها جراحَ الأيدي التي طرّزتها وأودعتها ذكرياتها وأحلامها وآمالها.

“عودة الروح” للأسكتلندية جين فريري:مجسّمات شمعية تطرّزها حكايا اللجوء
 
09-Oct-2008
 
العدد 46