العدد 46 - ثقافي
 

يوسف ضمرة

كان كل ما طلبه محمود درويش من الموت، أن يمهله قليلاً كي يرتب حديثاً عابراً مع ما تبقى من الحياة، وكي يرتب جنازته في الربيع الهش، وأن تكون العلاقة بينهما -محمود والموت- ودية تماماً. لكن الموت لم يصغِ إلى الشاعر الكبير، وكأنه ينتقم من قصائده التي لطالما سخرت من الموت، أو أعلنت انتصار الشاعر في المواجهات السابقة. وربما لذلك لم يرغب الموت في أن تكون العلاقة بينهما ودية، حيث استدرج الموتُ شاعر العربية العظيم إلى معارك عدة، كان في كل مرة يخرج منها بجرح أو إصابة، لكنه ظل يكابر إلى أن فتح الموت قلبه للمرة الثالثة.. -يا حرام، شو بدّو يتحمّل قلبو ليتحمّل- كما قالها الشاعر عبده وازن عبر الهاتف، بعد أن قال في غصة: العوض بسلامتك.

لم يمهل الموت محمود درويش كي ينهي حديثاً عابراً. ولم ينتظره ريثما ينتهي من قراءة طرفة بن العبد. ولم يعدنا بشاعر مثله قبل اختطافه. شاعر جعل العدو يحسدنا عليه. وأجبر العالم كله على الاعتراف بالعربية لغة حية تختزن جماليات ساحرة كما بدت في قصائد درويش. ألم يقل "دوفيلبان" وزير الخارجية ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، إنه ما إن قرأ درويش قائلاً إن الوردة صارت جرحاً، حتى أدرك أنه شاعر كبير؟

وما إن رحل الشاعر، حتى كان حفل التأبين هدفاً لجهات عدة، رسمية وشعبية. وأخذت الأخبار تتوارد في وسائل الإعلام عن مشاركات عربية واسعة هنا وهناك، ما جعلنا ننتظر هذه التأبينات في لهفة وترقب، لا يخلوان من حذر وشكوك، بخاصة أن كثيراً منا عاش خيبات في مثل هذه الحالات من قبل. بل إن ما شهدته دار الأندى الفنية من حفل تأبين باهت ومرتبك ونيّئ، جعل الكثيرين أكثر حذراً في الأمل في هذا الحفل الذي أعدّت له وأقامته رابطة الكتاب الأردنيين.

لكن، ربما يكون هذا الحفل الذي أقامته الرابطة في الرابع من الشهر الجاري، هو الأكثر علوّاً ورزانة بين أمثاله السابقة في عمّان، وربما في عواصم عربية أخرى، سواء لجهة المشاركين وقيمة الكلمات، أو لجهة الحضور الجماهيري الكبير الذي لم يتسع له مدرج الحسن في الجامعة الأردنية.

كانت الكلمات قصيرة ومتوسطة، لكنها أضاءت مناطق بعضها كان معروفاً لبعضهم، وبعضها كان غامضاً. فمن تفاصيل الحياة اليومية الحميمة عند فواز طرابلسي، الشاهدة على عمق العلاقة بين الاثنين، ورؤية طرابلسي نفسه لشعر محمود درويش وركائزه وسياقاته الأساسية، إلى كلمة لا تخلو من الأسى باسم أسرة الشاعر، قدمها شقيقه أحمد، إلى كلمة الكتّاب والأدباء الفلسطينيين التي ألقاها الشاعر مريد البرغوثي، واحتفت بالشاعر كما يليق به شاعراً، إلى كلمة رابطة الكتاب الأردنيين التي قرأها الشاعر زهير أبو شايب، وتمكّن فيها من الفصل بين علاقته الشخصية بالشاعر، وبين دوره هنا ممثلاً للرابطة. وكان رئيس الجامعة الأردنية خالد الكركي الذي خلا البرنامج المطبوع من اسمه، ارتجل كلمة ركزت على العلاقة بين الأردن وفلسطين، وامتزاج الدم، سواء على أرض فلسطين أو في الكرامة، ما جعل من إقامة درويش في عمّان أمراً طبيعياً يجسّد هذه القيمة النبيلة. كما قرأ غانم زريقات كلمة مقتضبة اختزلت حزنه وألمه، هو الذي علّم محمود درويش لعبة النرد في عمّان، فكانت قصيدة "لاعب النرد" التي ستصدر في ديوان درويش المقبل عن دار رياض الريس.

نقطة الضعف في هذا الحفل الكبير، تمثلت في بعض المشاهد المبعثرة من هنا وهناك، بوصفها فيلماً حمل عنوان "في ذكراه" للمخرجة سوسن دروزة.

انتقت المخرجة بعض المشاهد المصورة من أمسيات الشاعر الراحل، إضافة إلى تغطية مشاهد لمخيمات فلسطينية ومناطق عربية بصوت الشاعر. وقد أوحى ذلك بالتسرع الذي بدا عليه الفيلم القصير، بحيث أن أي شخص متوسط الخبرة في عالم الكمبيوتر، كان قادراً على تقديم هذا الفيلم، وربما أجمل منه أيضاً. لكنها المناسبة التي يحلو لكثيرين استغلالها!

هؤلاء جميعاً قدمهم الشاعر جريس سماوي في طريقة غير نمطية، فبدا كما لو أنه واحد من المشاركين الأساسيين، عبر لمساته الشعرية، ومخاطبته الراحلَ في مناخ لم يخلُ من مسحة تراجيدية تليق بالحدث وصاحبه.

المفاجأة الأولى في الحفل، تمثلت في كلمة عبر البريد الإلكتروني للشاعر وزير الخارجية الفرنسي ورئيس الوزراء الأسبق "دومينيك دوفيلبان"، بيّن فيها أسبابَ عالمية درويش، الطالعة من تجربته المعبّرة عن تجربة شعبه الفلسطيني، منذ احتلال فلسطين سنة 1948 إلى آخر يوم في حياته.

وكانت المفاجأة الثانية في الحضور الطاغي للفنان مارسيل خليفة، الذي بدا أنه نقطة الجذب الرئيسة في الحفل. وقد شاعت تعليقات عدة تشير إلى أن هذا الحضور لم يكن ليتحقق إلا في حالين: أمسية شعرية لدرويش، أو أمسية فنية لخليفة، ما عكس انطباعاً بأن هذا الحضور الكثيف كان لمشاهدة مارسيل وسماعه. تجلى ذلك واضحاً في التجاوب الكبير والمميز كلما ذُكر اسم الفنان في الحفل، حتى قبل صعوده على مسرح الحفل.

لم يخيب مارسيل أملَ أحد. ورغم أن كثيراً من الناس يحفظون أغنياته، إلا أنهم تفاعلوا معه كما لو أن اللحظة التاريخية لم تتغير، وكما لو كان مارسيل مطرباً.

استفاد مارسيل من الشرط التاريخي أكثر بكثير من قدرته الغنائية والموسيقية. لكن مواصلته الطريق، أكسبته خبرة غير قليلة، جعلته يتخطى عالم الطرب الذي يصر الكثيرون على حشره فيه. وقد تبدى ذلك جيداً في غنائه قصيدة درويش "يطير الحمام". حيث بدت أوتار العود كما لو أنها تنطق كلمات القصيدة ذات المناخ المأساوي: "أعدّي لي الأرض كي أستريح/ فإني أحبّك حد التعب". وهي القصيدة التي كتبها الشاعر إثر خروجه التراجيدي من بيروت في العام 1982 مع المقاومة الفلسطينية.

غنى الجمهور مع مارسيل: "يطير الحمامُ/ يحط الحمامُ"، في طقس تلفّع بالسواد. ورغم أن قصيدة الشاعر الكبير "أحن إلى خبز أمي" كانت من أوائل القصائد التي غنّاها مارسيل، إلا أن مذاقها في حفل التأبين كان مختلفاً تماماً. بل يمكن القول إن مارسيل خليفة كله كان مختلفاً في هذا الحفل، بحيث تمكن من استحضار محمود درويش إلى جانبه على المسرح، فبدا كما لو أن محمود يقرأ تلك القصائد وأوتار مارسيل تحوك خلفية درامية مُحكمة. لم يخل الحفل من السياسيين والرسميين والحزبيين، كما كان فرصة جمعت كتّاباً ومثقفين في الأردن، إضافة إلى حضور عدد من كتّاب فلسطين وأدبائها وشعرائها، كغسان زقطان، وزكريا محمد، ومريد البرغوثي، وإبراهيم أبو هشهش.

بمعنى آخر، حاول هذا الحفل الارتقاء بذاته ليطاول قامة محمود درويش، الشاعر الذي وجدنا أخيراً أن في استطاعتنا الجهر بأنه هدية العرب والعربية إلى الإنسانية. والشاعر الذي يمكن لنا القول في كبرياء: إنه كان الأعظم عالمياً في تاريخ الشعر المعاصر.

استذكار درويش في طقسٍ تلفّع بالسواد: تأبينٌ يليق بلاعب النرد
 
09-Oct-2008
 
العدد 46