العدد 46 - كتاب
 

كان القرن التاسع عشر عصراً حاسماً في تغيير كثير من التقاليد المسرحية في العالم، فإلى جانب ظهور شخصية المخرج المسرحي، بعد أن كان الممثل النجم هو المتحكم بصناعة العرض، صار لزاماً على المخرج أن يكيّف النصوص الكلاسيكية، التي كُتبت في عصور سابقة، لشروط المسرح في زمنه وتقاليده من جهة، والمعايير الجمالية والأخلاقية التي يتبناها جمهوره من جهة أخرى.

يشير باحثون إلى أن غوته (الأديب الألماني الكبير) كان في طليعة المخرجين، في أوروبا، الذين قاموا بهذا التغيير، حينما أجرى تعديلات كبيرة في اخراجه لمسرحية شكسبير "روميو وجوليت"، إذ حذف المشاهد الكوميدية الفظة والمبتذلة اعتقاداً منه أن فيها "حماقة" كان شكسبير مضطراً إلى وضعها مجاراةً لذائقة عصره. وقد اتبع معظم المخرجين بعده هذا المنهج، وعلى مدى القرن التاسع عشر.

في القرن العشرين تغير الوضع كلياً. بدلت الثورات الاجتماعية، واضطرابات الحرب العالمية الأولى، وتطور الحركات الطليعية، بشكل أساسي، نظام القيم الأخلاقية والجمالية التي كانت سائدة في المسرح البرجوازي السابق، فلم تعد ثمة أي قيم تتمتع بشرعية مطلقة في المجتمع الغربي، وانحسرت الأعراف المسرحية التي يقبل بها المسرح بشكل عام، وحل محلها تنوع بارز في المعايير الأخلاقية والجمالية أكثر من أي وقت مضى. ولذلك صار أي نوع من الإخراج لمسرحية ما أمراً ممكناً، كما تقول الباحثة الألمانية أريكا فيشر ليشت.

كان لظهور النظريات الألسنية والسيميولوجية (علم الإشارة) أثر كبير في خلق هذا التنوع، بل الاختلاف بين نظام النص المسرحي ونظام العرض، فقد أصبح واضحاً أن النص المكتوب يتألف من علامات لفظية (حروف فقط) بوصفه خطاباً لغوياً، في حين أن العرض يتألف من علامات لفظية وغير لفظية كعلامات ما وراء اللغة، وتلك التي تصدر عن الجسد وعلاقتها بالكلام (الحركات والايماءات)، والأزياء، والسينوغرافيا، والرقص، والمكياج. وهكذا غدت العلاقة بين النص والعرض عملية صيرورة تشكل النص عبرها بوساطة نظام سيميائي معين، ومن ثم تحول إلى نص لنظام سيميائي آخر في الاخراج، أو العرض.

لكن ما دام التطابق غير موجود بين العلامات اللفظية للنص وعلامات العرض، فإن السؤال الذي يتطلب جواباً هو: كيف يقوم المخرج بعملية تحويل النص إلى عرض؟ تجيب ليشت عن هذا السؤال بتأكيدها أن نقطة الانطلاق لا تكمن في النص فعلياً، بل في قراءة النص، فليس مطلوباً من المخرج أن ينطلق من النص كما هو، وإنما وفقاً لما يقرأه  ويدركه. مفهوم القراءة هنا يشبه مفهوم القراءة في النقد الحديث، فهو فعالية تملأ الفجوات، أو النقاط اللامحددة، العائمة، الحرة في النص المسرحي، وتضيف قدراً من التحديد (لا التقييد) إلى الموضوعات التي يتضمنها في خطوط عامة فحسب.

لهذا فإن الخطوة الأولى لأي تحول ستتوقف على قراءة النص، تلك الفعالية التي يُعطى من خلالها معنى لعناصره الفردية، وللتراكيب التعبيرية المتتابعة (السلسلة المتجاورة من الألفاظ التي يكونها التعاقب الخطي أو الأفقي للغة) الأكثر تعقيداً، وللنص ككل. وفقاً لذلك تكمن نقطة الانطلاق في المعاني التي تطورت أثناء عملية القراءة، ومهمة المخرج والممثلين هي البحث عن علامات مسرحية قادرة على أن تعبّر وتنقل تلك المعاني. كما أن اختيار علامات مسرحية ممكنة ليس محصوراً بالنص المكتوب، ولا يمكن أن تُجمع من ذلك النص سوى معانٍ، ولأجل تلك المعاني ينبغي أن نجد العلامات أو الإشارات المسرحية الملائمة، ولكنها لن تكون العلامات أو الإشارات نفسها.

تضرب ليشت مثالاً على ذلك بأن التوجيهات المسرحية (التي يضعها المؤلف)، حتى لو أشارت إلى أن الشخصية المسرحية تتنهد، أو تركض، أو تجلس لكي تعبّر عن انفعال معين، فليس من الضروري اتباع هذه التوجيهات التي ربما كانت تقررت وفق قانون مسرحي للزمن الذي كُتبت فيه المسرحية.

ثمة أمثلة عربية كثيرة على تغيير المخرج لتوجيهات المؤلف الخاصة بسلوك الشخصيات، أو انفعالها في النص المسرحي، كما في تجارب المخرجين: صلاح القصب، عوني كرومي، محمد إدريس، الفاضل الجعايبي، روجيه عساف، جواد الأسدي، عبدالله السعداوي، ناجي عبد الأمير، شفيق المهدي، حكيم حرب، ومجد القصص. ناهيك عن عدم تقيّد أغلبهم بمواصفات الفضاءات المقترحة في النص، وأزياء الشخصيات، وعناصر أخرى سمعية وبصرية. هذا يُثبت أن عملية التحول لا يمكن أن تقودها الأسس التي تقوم عليها بنية الدراما المكتوبة، بل قراءة المخرج ورؤيته الجمالية والفلسفية.

عواد علي: تحولات جذرية في المسرح
 
09-Oct-2008
 
العدد 46