العدد 7 - ثقافي
 

محمود أبو هشهش من الشعراء الفلسطينيين الشبان المميزين. وقد صدر له في العام الماضي ديوان “استباحة”، ويصف الشاعر في لقاء مع “السّجل” قصائد ديوانه “أنها أقرب ما تكون إلى صور متناثرة تبني بمجملها هذا الديوان الذي قد يرى القارىء فيه أو في بعض أجزائه شريطاً سينمائياً”.

وأشار أبو هشهش، الحاصل على درجة الماجستير في النقد الفني من جامعة سيتي بلندن في العام 2004، إلى أن أهمية ديوانه تكمن في “قدرته على إعادة بناء التجربة التي عاشها كإنسان وككاتب”. وديوان “استباحة “ليس هو الأول للشاعر، فرصيده الإبداعي هو ديوان “وجع الزجاج”، الصادر في العام 2001، كما شارك في ديوان “ ضيوف النار الدائمون”، في العام 1999، وله نص استعراضي قدمته فرقة سرية رام الله للرقص والموسيقى بعنوان “البرجاوي” في العام 2000، وستصدر له قريباً رواية بعنوان “حبر”. ويعمل حالياً مديراً لبرنامج الثقافة والفنون في مؤسسة عبد المحسن القطان.

رام الله - السّجل

هل لنا بإطلالة على نصك الأول والمناخات التي تحركت فيها؟

أنا شعرياً أنتمي لشعراء النصف الثاني من التسعينيات، والذين ظهرت كتاباتهم بعد نهاية الانتفاضة الأولى، وعقب توقيع اتفاقية أوسلو، التي أعتقد أنها غدت تشكل مفصلأ هاماً ليس سياسياً فحسب، بل ثقافياً وإبداعياً كذلك.

فالمناخ السياسي الذي كتبت فيه قصائد الديوان الأول “وجع الزجاج” كان مكللاً بخيبة الأمل الجمعية، وإن شابها بعض أمل قليل بالتغيير أحياناً. ولكن فضيلة هذه الحقبة إن كان لها فضيلة، أنها سمحت لجيلنا أن يتخفف من أعباء كثيرة لم تستطع الأجيال السابقة التخفف منها، فكنا أكثر قدرة على الفكاك من ضغط السياسي، وأكثر تأملاً في عوالمنا الداخلية، وأكثر جرأة على التجريب، وعلى السخرية أيضاً.

يشعر المرء وهو يقرأ ديوانك “استباحة” أنه يشاهد شريطاً سينمائياً، كيف تسنى لك تصوير الحالة بالكلمة والشعر؟

هذا الديوان لم يولد كمشروع خطط له، بل كتبت قصائده كما تكتب اليوميات، فنما بطبيعية ودونما عبء كبير بأي نوع من المحددات، وبرز السؤال الفني بشكل أكثر وضوحاً وقتما قررت نشر الديوان، وأخذت أفكر بالجدوى الفنية لهذه النصوص التي سيضمها الكتاب، وبطريقة ورودها وتعاقبها في هذا الكتاب. وربما بالنسبة لي أهم ما في هذا الديوان قدرته على إعادة بناء التجربة التي عايشتها كإنسان وككاتب، واستحضار مزاجها، وجعل القارئ شريكاً بها بسهولة دون أي نوع من الابتزاز العاطفي، أو الفذلكة الفنية.

القصائد أقرب ما تكون إلى صور متناثرة تبني بمجملها هذا الديوان الذي قد يرى القارئ فيه أو في بعض أجزائه شريطاً سينمائياً. وتحاول نصوص الربع الأول من الديوان على وجه الخصوص، استدعاء أجواء تلك المرحلة القاسية من الانتفاضة الثانية ومزاجها النفسي. يتراكم هذا الشعور كلما تقدمنا في قراءة هذا الجزء، ونستطيع أن نلمس تحولات هنا وهناك، ولكن تظل تلك الصور المتناثرة القادمة من منظار شخصي، شظايا من الصورة الكبرى، ومن السياق الذي تحدث فيه الأشياء، وهذا ما يجعل الديوان يبدو كأنه فيلم. وربما لذلك، خلا من أية عناوين داخلية حتى تبدو لحظة القطع والانفصال ما بين القصائد هي ذاتها لحظة الاتصال، وكأن هناك مونتاجاً سينمائياً.

كيف ترى العلاقة بين الصورة والشعر من خلال تصويرك لحركة أطفال الحجارة؟

أنا لا أصور أطفال الحجارة، كما يعرفهم العالم عبر وسائل الإعلام أو غيرها. الأطفال في هذا الديوان هم عاديون تماماً، هم أؤلئك الذي يصرون على طفولتهم حتى في الظروف القاسية، فهناك الطفل الذي يتسلل في منع التجول ليشتري حبة بوظة، أو أولئك الأطفال الذين يلعبون كرة قدم، أو يتجمهرون على جنبات الطريق ويوقدون النار. إنهم ليسوا أبطالاً، ولا يحملون الحجارة، بل يحاولون بناء عالمهم الطفولي في عالم فقد طفولته تماماً وسيطرت عليه القسوة والعنف.

يحمل ديوانك “استباحة” الكثير من الصور المتحركة لهؤلاء الأطفال، مما يجعل المتلقي يشاهد ويراقب ما يحدث لهم ومعهم؟

أولاً لا أميل إلى تسميتهم أطفال الحجارة، فهذه تسمية درجت في الانتفاضة الأولى التي عايشها جيلي بشكل أساسي. أما الانتفاضة الثانية فبدت أكثر قسوة، ولم يكن للحجر فيها تلك القيمة المعنوية أو الأخلاقية التي احتاز عليه في الانتفاضة الأولى. في هذه الانتفاضة دخلت الطائرة والصاروخ والدبابة والأسلحة الثقيلة كلها المشهد، واصبح كل شيء مهدداً بالموت والقتل، بشراً وشجراً وحجراً.

ومع ذلك فإن ساحة المواجهة التي يصورها هذا الديوان مختلفة، وهي ليست تلك التي يواجه فيها الحجر الدبابة، بل تلك التي تواجه فيها الحياة العادية محاولات نفيها. إنها لحظات من الانتباه إلى ما أنسانا إياه تحديقنا في الدم في الشارع، وعلى شاشات “الجزيرة” والفضائيات الأخرى، وإلى مشاهد لا تنتبه لها الصحافة، وإلى أصوات لا تلتقطها ميكروفونات الصخب والشعارات والهتاف.

ومع ذلك هناك حضور كبير للانتفاضة في ديوانك، لماذا؟

هناك حضور طاغ لأجواء الانتفاضة في الربع الأول من الكتاب فقط، وهذا الجزء يورث الكتاب مزاجه العام. ولكنه حضور مختلف، يتم رصده من زاوية قصصية. فليس هناك بطولة للحدث كما هو الحال في الانتفاضة، كما أن ليس هناك ميل إلى تصوير الضحية، إن الحدث هنا هو شكل من أشكال الانتباه فقط.

حوالي ربع قصائد الديوان فقط لها علاقة بالانتفاضة، أما بقية قصائده فهي عن الحب، وعن لحظات جوانية، وعن أمزجة أمكنة أخرى غير فلسطين، ولكن الغريب أن قصائد الانتفاضة هي التي تصبغ الديوان كله بصبغتها وتورثه مزاجها، مع أن الديوان ينتهي بقصائد عن الحب، وهناك فرق كبير بين أول قصيدة من الديوان وآخر قصيدة، لكن سيطرة مزاج الانتفاضة على الديوان مرده أن الشعور الذي يرافق القارىء في أول الديوان يلازمه حتى آخره، ولذلك لا يستطيع أن يرى القصائد الأخرى، حتى تلك التي تدور عن الحب وغيره، إلا في سياق الانتفاضة، وربما يكون هذا صحيحاً، لأن كل شيء هنا، أي في فلسطين، خارج سياق الانشغال في هموم الحصار والانتفاضة وصعوبة الحركة، يبدو مجرد شيء طارىء، وينظر إليه كحالة استثناء ضمن القاعدة ذاتها. وأنا سعيد إذا كان الديوان قد نجح في إيصال ذلك.

برأيك هل نستطيع القول إن انتفاضة 2000، أنتجت شعراً يمكن دعوته بـ “شعر الانتفاضة” كما حدث بالنسبة لـ “شعر المقاومة”؟

على العكس تماماً، فقلما نجد شعراً في فلسطين يتناول الانتفاضة الثانية، وربما الشاعر محمود درويش كان الأسبق إلى الكتابة والنشر عن هذه الانتفاضة، وذلك في قصيدته “حالة حصار” التي شكلت ديواناً صغيراً، إضافة إلى بعض القصائد التي كتبها هنا وهناك استجابة للحظات استثنائية في الانتفاضة، مثل قصيدة “القربان” أو تلك التي كتبها عن محمد الدرة وغيرها. أما الكثير من الشعراء الفلسطينيين وخصوصاً الشباب منهم فقد تفادوا الكتابة عن الانتفاضة وخاصة شعراً، واتخذت كتاباتهم في أكثرها شكل الشهادات، أو صورة نصوص نثرية تجريبية في مجملها. وأستطيع القول إنه كان هناك بالمجمل شعور بالعجز لدينا ككتاب في كتابة ما يحدث، لأن الحياة أصبحت فجأة أقوى من الأدب. كما أن عدسات الكاميرا استهلكت بشكل قياسي بطولة الحياة هنا، ولم تترك للأدب فرصةً أو شهية لتصوير ما تنقله هذه العدسات، فبدت الكتابة شيئاً أكثر تحدياً واستعصاء، وبدا الشعر أقل أشكال الكتابة قدرة على الاستجابة لشروط الانتفاضة. لذلك لا اعتقد أن هناك ما يمكن تسميته بشعر الانتفاضة، إلا إذا أراد شخص دارس أن يجمع ما تم كتابته في هذا السياق في كتاب، ويطلق عليه شعر الانتفاضة، أما الأشكال الأخرى من الكتابة غير الشعر، مثل الرواية والقصة، والنصوص المفتوحة، والشهادات واليوميات، التي كتبت خلال السنوات الست الأخيرة، فنجد فيها الكثير من السمات التي قد يكون مزاج هذه الانتفاضة الرابط بينها والخيط الأساسي فيها. وهذا ينطبق على أشكال الممارسة الإبداعية في فلسطين، ولا سيما فيما يتعلق بالإنتاج السينمائي بشكل خاص، فنجد أن هذه الانتفاضة قد أنتجت جيلاً جديدا من المخرجين الشباب وغير الشباب، الذين قاموا بدورهم بإخراج موجة كبيرة من الأفلام الوثائقية أو الروائية القصيرة التي تجعل من الأوضاع الإنسانية القاسية الناجمة عن إجراءات الاحتلال الإسرائيلي اللاإنسانية في هذه الانتفاضة ركيزة لموضوعاتها الأساسية. وفي هذا السياق ربما يصدق القول إن هناك ظاهرة ما يمكن تسميتها بسينما الانتفاضة أو بمخرجي الانتفاضة، لكنني أرى أن الأمر لا ينطبق على الشعر بشكل خاص. وعلى كل، ما زال الأمر مبكراً للخروج بنتائج من هذا النوع، وهناك ضرورة كبيرة لبحث ودراسة المنتج الإبداعي الفلسطيني، أدباً وفناً، خلال هذه الانتفاضة، وربما خلال الانتفاضة الأولى، قبل الخروج بخلاصات مثل هذه.

هناك بوح في قصيدة “تعب” وتحمل أيضاً مفارقات كثير.. فما هو رأيك؟

قصيدة “تَعِبٌ” هي لحظة بوح، وتفريغ وتشكٍ. إنها لحظة إنسانية محضة. حالة عامة من التعب ليس من قسوة الحياة التي يفرضها الاحتلال فحسب، بل من أشياء كثيرة أخرى كثيرة، مثل الحب، والأصدقاء، والبطولة، وغيرها. تأتي هذه القصيدة في منتصف الديوان تقريباً، كلحظة اعتراف بالتعب، واستسلام لضعفنا الإنساني، وحاجتنا إلى الشكوى، بل والصراخ أحياناً، من أجل مواصلة الحياة بشكل أكثر خفة ومعافاة. وبعد هذه القصيدة يتواصل الديوان عبر نصوصه المختلفة.

لديك رواية تحت الطبع، هل ترى أن فضاء الرواية أرحب من فضاء الشعر لذلك لجأت لها؟

إنها ليست رواية بالضبط، وإن تم تجنيسها كذلك، فلضرورات النشر. فبقدر ما “استباحة” عمل شعري، فإن “حبر” رواية. والمثير في الأمر أن كلا العملين يتناولان تقريباً المرحلة نفسها، وهي مرحلة الانتفاضة الثانية، التي وقعت خلالها اجتياحات قاسية لمدن الضفة الغربية، ومدينة رام الله التي أعيش فيها.

كلاهما، أي الديوان والرواية، يحاول تسجيل صوت الحياة الشخصية في ذلك السياق الصعب والقاسي واللايقيني، رغبة في القبض على الحياة، وفي إعلاء الصوت العادي والطبيعي تحت ضجيج اللاعادي، وسطوة اللاطبيعي، فيبدو هذا العادي والطبيعي مستهجناً وغريباً، كما تبدو الكتابة عنه أقرب إلى الشعر، وهذا عكس قوانين الطبيعة والكتابة أيضاً. وأرى أن هذا الأمر مثير جداً، وربما يجعلنا نصبح أكثر بساطة وانتباها من أي وقت مضى لأهمية العادي اسماً ومعنى ومبنى، وأقل إيغالاً في المجاز.

لكن لعل الرواية تتيح حرية أكبر للكاتب للتحرك مما تتيحه القصيدة المحكومة، بمزاجها ولحظة كتابتها وببنائها الذي يقتضي صرامة أكبر واقتصاداً لغوياً وبنيوياً أشد. يتناوب النص الروائي الذي هو سيصدر قريباً تحت عنوان “حبر” على محاور الحب والحرب والكتابة، في بناء يتعمد البساطة ويطغى عليه المنظور الشخصي ليشكل نقيضاً أدبياً لما كان يمثله زمن كتابتها، أي السنوات الثلاث الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي درجت تسميتها ب “انتفاضة الأقصى”، من هيمنة واقع سياسي وأمني معقد وخطاب جمعي وإعلامي غامر.

ويلعب هذا النص على المساحة الملتبسة ما بين السيرة الذاتية المجتزأة والرواية دون أن يقصد، أو يدّعي، أن يكون أياً منهما تماماً. إنه يحاول أن يكون رواية شخصية تضمن لكتابها مساحة خاصة للقول أو السرد حول الحب والحرب والكتابة، وكيف يفعل كل منهما في الآخر تحت وطأة هاجس الرغبة في الفعل المتمثل بالكتابة بقصد المحافظة على التوازن الوجودي في ظل واقع جمعي قاسٍ، وشخصي مرتبك، وحيث يبدو الحبر عديم الجدوى في حضرة الدم على الشارع والتلفاز. إنه نص عن محاصرة الحرب للحب وللمساحة الشخصية، كما هو محاولة لامتحان جدوى الكتابة أو عدميتها أمام كاتبها، وهو يتأرجح ما بين المعنى والعبث.

محمود أبو هشهش: أنا شاعر من حقبة أوسلو
 
27-Dec-2007
 
العدد 7