العدد 45 - بورتريه | ||||||||||||||
خالد أبو الخير
الشاب الذي غادر في مقتبل الأمل إلى الولايات المتحدة من مطار قلنديا/ القدس في العام 1966، عاد عبر مطار عمّان المدني في ماركا الشمالية العام 1972، وكانت مرابع صباه وشبابه في بيت لحم والقدس قد نأت كحلم بعيد. «أعطني تعليماً جيداً أُعطك أمة صالحة»، يتمسك بهذه المقولة كلما هالته الحال التي وصلنا إليها، مشهراً إيمانه كأستاذ جامعي وإداري بأن نوعية التعليم تؤدي دوراً محورياً في تقدم الأمم وتأخرها. بين قرع الأجراس وصوت الأذان وُلد أمين محمود في بيت لحم ، لأسرة متواضعة ذات إرث بدوي «تعمري»، ولأب كان أمياً، بيد أنه عشقَ التعليم لسبب أو لآخر، فكان أن اتخذ قراره بإرسال ابنته الكبرى «حلوة» إلى القدس لمتابعة تحصيلها الثانوي ثم الجامعي في القاهرة، وهي واحدة من أوائل السيدات اللواتي حُزْنَ الشهادة الجامعية، واقترنت في ما بعد بالأديب أمين فارس ملحس. وتبعها في التعليم ركب الأولاد. الأسرة كانت تعيش على هامش المجتمع، وتعوّل على الفتى الخجول غضّ الأهاب، أن يثبت جدارته وقدرته على التنافس مع أقران عديدين كانوا ميسوري الحال. ثلاثة كيلومترات ذهاباً وإياباً قطعها صيفاً وشتاء إلى مدرسته «بيت لحم الثانوية»، مراتٍ يخوض في الوحل والثلج يعتريه هاجسُ بطل «تحت سماء الجليد» لـ«جاك لندن» الذي لا ينجح قطّ في الوصول. وأخرى تحت قيظ الظهيرة حاثّاً الخطى، وراء ما صار إليه. ساعات طوال أمضاها دارساً على ضوء سراج، قبل أن تتطور الحال بالعائلة إلى استخدام «اللوكس نمرة 4»، وصولاً إلى القراءة تحت أضواء عواميد الكهرباء بمعية طلاب آخرين، كان منهم أصدقاء انسحبوا بهدوء واختفوا في العتمة والريح والحروب والمسافات. أنهى الثانوية العامة في العام 1958، وحاز بعثةً لدراسة التاريخ، في جامعة عين شمس بالقاهرة، حيث كانت الناصرية في أوجها. «للمرة الأولى شعرنا، نحن الخارجون من مأساة ضياع فلسطين، أن القضية الفلسطينية ليست حكراً علينا، لكنها قضية العرب في كل مكان. رأينا كما رأى طلاب مصريون وعراقيون وسوريون وغيرهم، في قيادة عبد الناصر سبيلاً للتحرير، فانسقنا وراء الشعارات وعشنا مرحلة الهيجان الرومانسي. كنا نجري وراء الشعارات النبيلة دون أن يتوافر لنا الوقت لاختبارها. نجري وراء الهدف دون أن نهتمّ بالطريق التي توصلنا إليه». ..لم تكن الطريق طويلة إلى دار المعلمين في العروب، لكنه قطعها خفيفاً، يسبقه شغفه بالمهنة وتطلعه لخوض تجربة التدريس. غير أنه لم يدّرس التاريخ، وإنما اللغة العربية، نظراً لوجود شاغر في مجالها. زامله في الدار الشابُّ الخليلي الذي صار مديراً للإذاعة، ثم وزيراً لشؤون الأرض المحتلة، مروان دودين. أكمل عمله في سلك التدريس في المدرسة الراشدية الكائنة في شارع صلاح الدين قرب المتحف الفلسطيني بالقدس. ومن أساتذتها المجيدين الأديب ذائع الصيت خليل السكاكيني، وحسني الأشهب. تميزت علاقاته بالطلبة بالانفتاح. يذكر منهم غسان طهبوب، مستشار الشيخ محمد بن راشد في زمننا هذا. سائراً في دروب القدس العتيقة وصولاً إلى باب العامود، لطالما لحظَ الشَّبَكَ الذي يفصل شرق المدينة عن غربها، وعيون إسرائيليين تترصد طرقات تستعيد ابتهالَ عابديها. ودّعَ القدس في العام الذي تلى، بعد أن حصل على منحة فلوبرايت لدراسة الماجستير في التاريخ الحديث بجامعة جورج تاون الأميركية في العام 1966، وهناك عاش محنة حرب 1967 والهزيمة التي أشعلت عملية نقد الذات: ما الذي حدث، ولماذا؟ فضلاً عن قلقٍ على مصير الأهل والأصدقاء، وعلى مستقبل أمة ها هي حتى الآن، بعد أربعين عاماً ونيف، تواجه أسئلة المصير. تأثر في تلك المرحلة بالمفكر هشام شرابي، الذي كان أستاذه. «تكمن قوة شرابي في تركيز دراساته الأكاديمية على الثقافة الغربية، إلى أن شكّل العام 1967 نقطةَ تحول في فكره، فقد بدأ يجمع الطلبة العرب في ندوات ويحلل الواقع العربي من منطلقات فكرية غربية فضلاً عن بعض الفكر العربي الإسلامي». انتهت منحة فلوبرايت في العام 1968، فقدم لمنحة تنافسية لدراسة الدكتوراه في الجامعة نفسها، وحازها بجدارة. ارتأى أن يدعو باسم الجامعة، الملكَ الراحل الحسين لإلقاء محاضرة إبان رحلة ملكية إلى الولايات المتحدة في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن 242. اعتذرت السفارة عن إيصال الدعوة للملك، فأوصلها إليه عبر أحد المقربين إبان توقفه في باريس، وقَبِلَها الملك على الفور. «ألقى الحسين خطاباً مهماً على الطلبة، تبعه نقاش مستفيض، تحدث فيه الملك بأريحية شارحاً الحق العربي في فلسطين، ثم قال لي حين قدّمني له أحد الأساتذة: بلدك ينتظرك». لم يكد العام 1972 يحل، وكان حينئذ قد حاز الدكتوراه، حتى شد الرحال مستعجلاً السفر إلى أرض الوطن، تسبقه أحلامه وآمان ما زالت عذاباً. عمل في قسم التاريخ بالجامعة الاردنية، ثم يمّم في العام 1977 صوب جامعة الكويت أستاذاً زائراً. «تجربتي الكويتية كانت فريدة، فالجو العام منفتح ومختلف عن كثير من الدول العربية، فضلاً عن توافر حركة ثقافية رائجة وصحافة حرة». قفل في العام 1982 عائداً إلى عمان، حيث شارك بتأسيس مركز الدراسات العبرية بجامعة اليرموك، الذي انضم بعدئذ إلى مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية. الهوى الكويتي أغراه بالسفر مجدداً إليها من 1986 إلى 1990، وقد وقع الغزو العراقي وهو في إجازة في عمّان. لكنه عاد للكويت لينهي متعلقاته. «فترة الغزو كانت صعبة ومُرّة على الجميع، ومن أكثر من عانى منها فضلاً عن الكويتيين، الأردنيون والفلسطينيون». جاهد ونحو 25 أستاذاً أردنياً في إنقاذ سجلات جامعة الكويت (ذاكرة الجامعة)، وسلموها للمستشار الثقافي في السفارة الكويتية بعمّان آنذاك، يوسف خريبط، كما أوضحوا له حقيقة الموقف الأردني. عُيّن في العام 1991 رئيساً لجامعة البترا. «من الأشياء التي أعتز بها في إدارتي الجامعية تعزيز مفهوم العمل الجماعي، وقدرتنا على أن نخلق في البدايات بيئة جامعية معقولة». أما ما أعياه فعله خلال مسيرته في الجامعات الخاصة فهو «إرساء ثقافة ولغة مشتركة ما بين صاحب المال وأستاذ الجامعة». جاء وزيراً للثقافة في حكومة عبد السلام المجالي في العام 1993. يعتز بمشروع لم يكتمل في عهده، هو تحويل قلعة كانت تُستخدم سجناً في معان إلى مركز ثقافي للأطفال. ويستذكر بكثير من الاعتزاز أن طلبات عديدة انهالت على الوزارة، تطالب بتحويل سجون وقلاع في شتى أنحاء الأردن إلى مراكز مماثلة. غادر حقيبة الثقافة إلى رئاسة جامعة الزيتونة لمدة سنة، ثم انتقل لرئاسة جامعة عمّان الأهلية لسنوات سبع لم تكن عجافاً، فقد عمل على إنشاء اتحاد للجامعات العربية الخاصة، ظل أميناً عاماً له حتى أربعة أشهر مضت. كثيرون يلحظون تمسكه بلهجته الريفية، ما يدعو مقرباً منه للقول إن أمين محمود «يحب أن يبقى تعمرياً وبسيطاً لم تعتوره أمراض المناصب ومثالبها». تقلقه التحديات التي تواجهها المنطقة، ويدعو للارتقاء لمستواها، لا أن تلهينا القضايا الهامشية، ممخضاً ولاءه «لقيادتنا الهاشمية المستنيرة التي هاجسها الأساس أمنُ الأردن واستقراره ونموه». بعين المؤرخ يلحظ «أن أهم ما في الأردن أنه نتاج لانصهار مختلف المنابت والأصول في هوية وطنية تسعى لبناء قوتها الذاتية وتساهم في البناء الوحدوي»، محذّراً: «أي محاولة للوقوع في متاهات المنابت والأصول ستعيق التقدم وتقصر بنا عن مستوى التحديات». ينهي أمين محمود كلامه، ويترك للتاريخ الذي درسه أن يحكم في مقبل الأيام على تجربته. |
|
|||||||||||||