العدد 45 - كتاب | ||||||||||||||
قبل أيام قليلة، كان مثقفون يتحاورون، انطلاقاً من التهديد الذي اتخذ سمةَ العلَن، والموجّه ضد القصة القصيرة. لكن كتاب "تودوروف" الجديد "الأدب في خطر" يجعل الأمر أكثر تعقيداً وإرباكاً وشمولية، ليتخطى القصة القصيرة أو أي جنس أدبي آخر. يكفي عنوان كتاب "تودوروف" ليشكل في حد ذاته جرسَ إنذار لا بد من أخذه على محمل الجدّ. فلا يمكن القول مثلا إن موقع الكتابة الأدبية الراهنة، يطاول موقعها في القرن التاسع عشر، وحتى الثلث الأخير من القرن العشرين. ندرك أن ثورة الاتصالات، والقنبلة الإلكترونية، وشيوع الفضائيات العابرة للقارات، أسهم في شكل أو في آخر في الحد من القراءة. والقراءة هي الطرف الثاني الرئيس في معادلة الكتابة الأدبية. فإذا لم يكن ثمة قارئ، فلا داعي لوجود الكاتب، اللهم ذاك الذي يكتب إلى قارئ مستقبلي مفترض أو مزعوم. تمثل الكتابة الأدبية وسيلة اتصال وحوار بين الكاتب والمتلقي. وغياب المتلقي يشكل خللاً أصاب هذه المنظومة الحوارية في العمق. بالتعريج على العالم العربي، فإن الأمر سيبدو أكثر سوداوية وتشاؤماً مما هو عليه في العالم. كانت الطبقات الوسطى في العالم العربي هي الجهة الرئيسة المعنية بالكتابة والقراءة. وهي الطبقة التي أنتجت معظم الكتاب والأدباء العرب، وحاز أفرادها قسطاً جيداً من التعليم والثقافة، وهي الطبقة الأوسع والأكبر آنذاك في المجتمعات العربية، بشرائحها الواسعة من أطباء ومهندسين ومحامين ومعلمين وطلبة جامعات. ولأنها كذلك، فإنها الطبقة التي كانت تضم أكثر الفئات والشرائح الاجتماعية قدرة على التحاور والتساؤل وامتلاك الرغبة في التغيير. وليس من باب المصادفة أن تتشكل الأحزاب السياسية العربية من أبناء هذه الطبقة. هذه الطبقة في المجتمعات العربية جرى العمل على تفكيكها، أو تحطيمها، أو استيعابها. فقد أشارت الأرقام الاقتصادية إلى أن غالبية هذه الشرائح التي كانت تشكل خزان الطبقة الوسطى، انزلقت إلى هاوية الفقر والعوز، ما يعني حكماً تحولاً جذرياً في اهتماماتها وسلم أولوياتها. ومن هذه التحولات ما يتعلق بالقراءة، حيث أصبحت تشكل عبئاً مالياً إضافياً أصبح أضعف الحلقات التي يمكن الاستغناء عنها وكسرها من دون ندم، في ظل أوضاع معيشية قاسية. بالمقدار الذي حدثت فيه التحولات القرائية، حدثت تحولات كتابية في الطبقة نفسها. فاتجه كثير من الأدباء إلى كتابة المسلسلات الدرامية سعياً لسد الفجوة التي أحدثها النظام السياسي والاقتصادي العربي. كما أصبح استيعاب العديد من الأدباء تحت عباءة السلطة السياسية العربية أمراً شائعاً وسهلاً لا كما كان من قبل عصياً، ما أدى إلى المصادرة والمنع والتضييق والملاحقة للكتاب والأدباء في معظم أنحاء العالم العربي. وما شجع هذا الاستيعاب الصارخ، هو انحسار حركات التحرر العربية، بل وهزيمتها، بدءاً من هزيمة المشروع القومي وانحساره، مروراً بهزيمة المقاومة الفلسطينية، وصولاً إلى قدرة النظام العربي الرسمي على عقد اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، ودول المنظومة الاشتراكية. وبمقدار ما كانت هذه الحيثيات تشكل روافع أساسية لتطلعات الطبقة المتوسطة، حامل مشعل التغيير والمبادرة، فإنها -أي تلك الروافع- ما كان ينبغي لها أن تأخذ دور البطولة أو تسرقه من أصحابه الحقيقيين. بمعنى أن هنالك جانباً اتكالياً كان سائداً في مشاريع التغيير والإصلاح التي حملتها الطبقة الوسطى عقودا عدة. وإذا كان الأدب يطرح الأسئلة الملحة والضرورية، ويحفز المتلقي على التأمل والتفكير في قالب جمالي، إلا أن جماليات جديدة طرأت على الواقع الاجتماعي كله. حيث أصبح الحصول على المعلومات أمراً يسيراً، وأصبح العالم كتاباً مفتوحاً أمام المتلقي من دون كتاب ورقي. لكن الأخطر من ذلك كله، هو المناطق التي انزلق إليها الأدب في العقود الأخيرة. فبينما كان الأدب شكلاً أساسياً من أشكال إنتاج الوعي الاجتماعي، أصبح في كثير منه الآن كتابة باحثة عن المبهر، وأشكالاً من الممارسة الذاتية الساعية إلى التميز، وإن على حساب القيم الجمالية والمعرفية. هذا كله يحدث الآن تحت شعار الحداثة، وما بعد الحداثة. وهي شعارات لم يجر استيعابها جيداً في المجتمعات العربية، لأن هذا الاستيعاب يعني تخليق قطيعة ثقافية بالمعنى الشامل، مع تاريخ من القمع والاستبداد والأبوية والتهميش. أي أن الحداثة الحقيقية ينبغي لها أن تتجذر في الجوهر الإنساني أولاً، لكي يتم التعبير خلالها بشكل حقيقي وأصيل من دون افتعال أو ادعاء. فلا يمكن لأحد أن يقنعنا أن كاتباً يحمل إرثاً متجذراً من القيم القبلية مثلاً، قادر على استيعاب مفهوم الحداثة، ومن ثم استلهامه في الكتابة الأدبية. لكن كثيراً من الكتاب يظنون أن الجرأة في تناول الموضوع الجنسي مثلاً، يدخل في باب الحداثة، متناسين أن واحداً مثل إحسان عبد القدوس مثلاً صال وجال في هذا الميدان، وظل رجعياً في طروحاته ومفاهيمه. وفي إيجاز، فإن الأدب أصبح في الوطن العربي يدخل إلى غربة ما كنا نتمناها، لكن المسؤولية تتوزع على جهات عدة، ولا نستثني منها الكاتب والتحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية التي أصابت الكون. |
|
|||||||||||||