العدد 7 - ثقافي | ||||||||||||||
في مدينة مزدحمة مثل القاهرة، هنالك عبقرية مصرية خاصة في استغلال المكان لأغراض ثقافية وموسيقية مبتكرة، فأحد أهم المعالم الثقافية المصرية والمتمثل بـ“ساقية عبدالمنعم الصاوي” تقبع مباشرة تحت كوبري “جسر” 15 مايو في الزمالك. كانت مفاجأة لذيذة أن أعزف هناك برفقة موسيقيين مصريين وأنا على علم تام بأن السقف الذي فوق رؤوسنا يحمل أشكالا وألوانا من المركبات الثقيلة والتي لم نكن نسمع صوتها لسماكة الاسمنت المسلح الذي صنع منه هذا الكوبري المزدحم. أما المفاجأة الثانية (وهي بمثابة تجربة بالإمكان الاعتبار منها أردنياً ودراستها من أجل تطبيقها في بلدنا الذي مازالت الموسيقى تنهض فيه بالرغم من شح الموارد وشبه انعدام البنية التحتية الموسيقية)، فهي أن وراء الحركة المستمرة في ساقية الصاوي وامتلاء المسارح فيها يومياً بالفعاليات المختلفة مال مصري خاص مقدم من كبيرات الشركات المصرية الخاصة المهتمة بالنهوض الثقافي في عاصمة تعرف تماما كيف تقدر الفن وأهله. بعد دخول هذه الفسحة الثقافية المركبة همست في أذن زميل موسيقي من الأردن كان يرافقني في هذه الرحلة «ليت لدينا مثل هذه العقلية في الأردن» – فقد لفت انتباهي أن طرفي المسرح الذي كنا نجلس فيه قد تزينا بأسماء الشركات الممولة للمشروع بطريقة أنيقة وإحداها لشركة نشر وإعلانات ضخمة يمتلكها صاحب فكرة الساقية الخمسيني محمد الصاوي. وراجعت الذاكرة، علني أتذكر مسرحا أو مشروعاً مشابهاً في الأردن يقف بكليته على قدميه بسبب تعاون شركات اتصالات ومواد غذائية وإعلانات وبنك من أجل تمويله ودعمه بشكل كامل... فلم أجد! وبتنهدة المحروم أرسلت دعاء صغيرا يوما علنا ننعم بمثل هذا! الذكي في مشروع الصاوي كما يبدو هو الانفصال التام بين إدارة المشروع عن باقة الممولين الذين يدعمونه بالشكل الذي يضمن له استقبال فرق موسيقية مختلفة لا تجارية وثقافية وذات جمهور مهتم ضيق في كثير من الأحيان وبحرية تامة، مع انصراف الساقية إلى استقطاب أسماء مصرية وعربية لامعة من المقيمين في مصر مثل نصير شمة وعلي الحجار لتتوج “الساقية” نفسها صرحاً يلتقي فيه أهل الفن من صغارهم إلى كبارهم بشكل يلغي الطبقية الفنية بينهم على أقل تقدير. الاستقلالية الإدارية تضمن الاستقلالية الثقافية للمشروع من دون تدخل الشركات الممولة في المحتوى الثقافي بحيث لا يتسنى لها إقحام أجنداتها التجارية في أمور لا خبرة لها فيها، فيتم لهذا المشروع النمو بروح ثقافية حقيقية ليتحاور بنزاهة مع شعراء وموسيقيي ورسامي ونحاتي بلاده من منطلق الراعي الحقيقي المهتم. ولا تقتصر نشاطات ساقية الصاوي على الموسيقى، فلديها برنامج مزدحم للأطفال والكبار على حد سواء يضمن للساقية اندماجها مع المجتمع المحيط من دون فوقية ثقافية أو تقوقع ثقافي معهود لدى الكثير من المراكز الثقافية بحيث تمد الساقية جسوراً أمام تنمية المجتمع لترى أن مرتادي الصاوي يتراوحون بين الشعراء والمثقفين الكبار وأصحاب الصالونات الأدبية إلى غيرهم من الشباب وربات البيوت والموظفين من الطبقات الاجتماعية المختلفة. من أجل هذه الشريحة المستهدفة العريضة تعرض المسرحيات وتقام مهرجانات الشوكولاتة والفنون ومسابقات التصوير الفوتوغرافي وعروضاً للأفلام الروائية القصيرة ومسابقات السودوكو ومسابقات تقوية الثقافة واللسان العربي وندوات حول التوعية بالإيدز ومنع التحرش بالنساء والتسامح الديني والاجتماعي والتعريف بعظماء الأدب العربي أو الفلاسفة اليونان وعروض الأفلام الفليبينية والأميركية بالإضافة إلى تعليم رياضة القوس والسهم «العربية الأصيلة» والخط العربي ودروس في اليوجا وعرض لرسومات لفنانين وفنانات من الأطفال وأمسيات شعرية. كل هذه الفعاليات – وغيرها الكثير – ليست لكل أشهر السنة، فهي فقط لشهر كانون الأول / ديسمبر الحالي! المثير للإعجاب أيضا هو التسامح الموسيقي والنظرة الرحبة لساقية الصاوي التي تستضيف على مسارحها الموسيقى الفلوكلورية المصرية والجاز والروك العربي والطرب الأصيل والأناشيد الكنائسية و“أغنيات من الواقع المصري” و “مزيج من الموسيقى الروحانية الأردنية المصرية” (وهو مشروعي) و“أغنيات مصرية بديلة” ضمن برنامج موسيقي حافل يلتقي فيه العود والقانون مع الجيتار والهارب والساكسفون تحت سقف واحد. ليت لدى عمان مشروعاً مثل «ساقية عبد المنعم الصاوي»، وليت للقطاع الخاص فيها نظرة فسيحة ومستقبلية للنهوض بالثقافة البديلة في هذا الوطن الذي ما زال موسيقيوه يعانون أمام العوائق ويحفرون في الصخر أحيانا! |
|
|||||||||||||