العدد 45 - ثقافي
 

السّجل - خاص

«حضور في الغياب»، ذاك هو عنوان نحو أربعين يوماً مرّت على رحيل الشاعر محمود درويش؛ فمنذ إعلان وفاته في التاسع من آب/أغسطس الفائت في أحد مستشفيات ولاية هيوستن الأميركية، واسمه لازمة في أخبار وكالات الأنباء، وفي كثير من العناوين الداخلية في صحف محلية وعربية.

وفاة درويش شكلت حالة استثنائية من ردود الفعل التي تعاظمت أصداؤها، وحافظت على زخمها حتى اليوم الأربعين.

أشكال استذكار درويش تعددت لتشمل جميع الفنون: الشعر والمسرح والغناء والفن التشكيلي والأفلام الوثائقية، بينما أخذ الاحتفاء أبعاداً أكثر رمزية، بدءاً من مدن أطلقت اسمه على شوارعها، حتى استحداث جوائز أدبية باسمه.

الاحتفاء الذي تجاوز العادي والمألوف في تكريم شاعر وليس زعيماً سياسياً، يردّه مثقفون استطلعت «ے» آراءهم، إلى قامة درويش الأدبية والرمزية، وجماهيريته التي تعددت أسبابها.

الكاتب الصحفي موسى برهومة يقر أن غياب درويش سيظل «جرحاً مفتوحاً يصعب أن يندمل بسهولة». ويحيل ذلك إلى رحيله في «أوج عطائه وحكمته الشعرية». يضيف برهومة أن درويش «رحل على نحو تراجيدي يذكّر بالشخصيات والحوادث الأكثر أثيرية إلى قلبه».

ويرى الناقد فخري صالح أن «الصدمة» إزاء رحيل درويش المفاجئ «مبررة»، وقال إن الأصداء التي ترددت في جنبات الأرض الأربعة كانت «هائلة بحجم الفجيعة التي نتجت عن غياب شاعر ومثقف وإنسان كبير».

«درويش كان مسكوناً بحس المأساة الذي تذوق لذاذاته الإبداعية في أعماله كلها»، بخاصة الأخيرة منها، كما يشير برهومة الذي يذهب إلى أن الاهتمام الإعلامي برحيل درويش «علامة صدمة ما زال الشعراء والمثقفون وقراء درويش يرزحون تحت نيرها القاسي».

الناقد محمد عبيد الله يرى أن الاحتفاء بدرويش «لم يكن احتفاء بشخصه، وإنما لقيمته الكبيرة التي مثلها عبر تجربته الشعرية المهمة».

ذروة استحضار درويش كانت مناسبة أربعينيته. أقيمت عشرات المناسبات الثقافية في مدن عربية وعالمية، قرأت منجز أحد أشهر الأصوات في هذا العصر في حقل كتابة القصيدة العربية التي ارتبطت بعشق الأرض والانحياز إلى الحق والعدل.

صدرت كتبٌ أيضاً تناولت الراحلَ بوصفه أحد أبرز الشعراء العرب المعاصرين الذين أرسوا دعائم القصيدة العربية الحديثة، منها كتاب «محمود درويش.. وداعاً»، الذي أعده وحرره نواف الزرو، ونشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

عّمان التي استقر فيها الراحل لسنوات، استحضرته عبر الأربعين يوماً الماضية بمناسبات عديدة كان منها قرار وزارة الثقافة نشر مختارات من قصائده ضمن «مكتبة الأسرة الأردنية»، وهو مشروع ريادي يتضمن إصدارات سنوية تُعرض للبيع بأسعار رمزية بدعم حكومي.

مؤسسات ثقافية مختلفة أقامت فعاليات عديدة تضمنت قراءات لقصائد من إنتاج الشاعر الراحل، وأخرى من وحي تجربته. وتراوحت المناسبات الاستذكارية بين إيقاد الشموع لروحه، وإطلاق طائرات ورقية مزينة بمقتطفات من قصائده، مثل «سجل أنا عربي» و«عابرون في كلام عابر» و«الجدارية».

معظم الصحف أفردت مساحات واسعة على مدى أيام لتغطية المناسبة عبر مقالات ونصوص بأقلام رفاق درويش وأصدقائه ومريديه ومحبّيه، أو استطلاعات آراء لتبيان أثر الغياب المدوّي له. التغطية الصحفية الأكثر تميزاً كانت لصحيفة «القدس العربي» اللندنية التي خصصت ملحقاً من أربعين صفحة استكتبت فيه أصدقاء درويش الأثيرين ونقاداً واكبوا تجربته، وصحفيين استقصوا تفاصيل صغيرة وشائقة من حياته التي شهدت وقائعَها أكثر من عاصمة عربية وعالمية.

صالح يذهب إلى أن تلك المشاهد من استذكار درويش منذ وفاته وحتى أربعينيته، تفرض المقارنة بين غيابه المبكر وغياب جمال عبد الناصر في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، مبرراً مقارنته بأن درويش جمع بين الإبداع الشعري العميق والجماهيرية الواسعة التي حققها على مدار أربعة عقود من الزمن.

ويرى أن درويش هو الوحيد من بين الشعراء العرب الذي كانت الجماهير تحتشد لسماع شعره، مشيراً إلى أنه لم يكن يشبهه في ذلك سوى الشاعر الراحل نزار قباني.

يستدرك صالح أن قباني أيضاً لم يحظَ بما حظي به درويش، ويضيف: «أصداء رحيل قباني اقتصرت على العالم العربي»، بينما غطت صحف العالم بلغات مختلفة وفاة درويش.

يوضح صالح أن منابر عالمية واسعة الانتشار عدّت الراحل «الاسمَ الحركي لفلسطين»، إلى جانب شهرته التي طبّقت الآفاق، وأشر على ذلك بترجمته إلى 22 لغة عالمية، خالصاً إلى أن كل ذلك يجعل من «مشهد حضوره في العالم على هذا النحو متوقعاً».

بيد أن ما قيل في رحيل درويش ما زال أقل مما كان يقال في رثاء قامات أدبية وفكرية، ويرى برهومة في هذا السياق أن ما يزيد الألم والإحساس العميق بالفقدان أن الراحل «راود على نحو بعيد كل مخيلاتنا واخترق معجمنا اللغوي، وأقام في الحروف التي نرددها في سرنا ولم نقلها بعد».

ويبرر ذلك بأن لدرويش «سطوة شديدة على اللغة والمخيلة»، مشيراً إلى أنه فتح أمام الشعر العربي «أمداء لم يصلها أحد من قبل، ونفخ في العربية روحاً لم يسبقه إلا نفر قليل قليل من الشعراء العرب».

يخلص برهومة إلى أنه أمام هذا المشروع الشعري والإبداعي الذي اختطفته يد الموت بغتة لا بد أن تكون الفجيعة كبيرة، وأن يكون إحساس الخسارة مراً وجارحاً. ويقر أنه يكتنفه الكثير من العدمية بأن الأرض اللغوية التي أنجبت هذا الشاعر العظيم «قلما تجود بمثله في الأيام والسنين المنظورة وغير المنظورة».

عبيد الله وهو يؤكد أن درويش «ظاهرة فريدة»، يشدد على أن ظاهرة فكرة «الشاعر الأوحد» فكرة «عربية كلاسيكية عفا عليها الدهر، ويرى أن «لا فراغ شعرياً بعد درويش» لرأيه أن الأمة العربية «أمة الشعر».

أبرز ثيمة حملتها مقالات استذكار درويش ذهبت إلى التساؤل عمن سيرث مكانته الأدبية، مقابل مقالات أخرى أخذت تتطرق إلى حوادث شخصية فيها سجال مع الراحل، أعيد فتحه عشيّة رحيله.

القاص خليل قنديل كتب في ملحق «الدستور الثقافي» عمّن كان درويش يشكل لهم «حالة ندّية عصية على التجاوز»، والذين وجدوا في موته «مناسبة للتعبير عن ضغائنهم التي كانت نائمة»، وأشّر على قول بعضهم إن قصائد الراحل كانت تتسم بالميل للاستفادة من الموروث التوراتي، وأن آخرين أشاعوا أن المرتبة التي حظي بها تعود لكونه «ابن السلطة الفلسطينية المدلل».

يستنكر صالح مثل تلك المقالات، ويرى أن الموت يفرض على الدوام احترام الفقدان والغياب، وعدم استغلال رحيل شاعر بحجم درويش لتحقيق أغراض شخصية أو الصعود على كتفيه.

ويستغرب أن بعض هؤلاء أخذ يقول على لسان درويش أقوالاً ربما لم يقلها، معرباً عن أسفه أن بعض الكتاب والمثقفين جرحوا جلال هذا الرحيل بكلام كان عليهم أن يقولوه خلال حياته أو يؤجلوه لأيام أخرى، مستدركاً أن المسألة تتعلق قبل كل شيء بـ«الأخلاق».

بعد أربعين يوماً على رحيل درويش:: جرح تراجيدي مفتوح
 
25-Sep-2008
 
العدد 45