العدد 1 - ثقافي
 

يبدو الطاهر لبيب، للوهلة الأولى، صوتاً برّياًّ، غريباً، طازجاً، فيه عَرَمُ البداوة الأولى ونفحة من الحداثة أو ما بعد الحداثة. ولا تدري ما إذا كان قد اقتحم ساحة العلوم الاجتماعية من بوابة الأدب، أم باحة الأدب من نوافذ علم الاجتماع؛ بيد أنه غدا، عبر عقدين أو ثلاثة، هو الـ"المُعَلِّم العَلَم" في مضمار سوسيولوجيا الثقافة الإبداعية في الحياة الفكرية العربية المعاصرة.

قل لي، أولاً، من أي آفاق أتيت، وأي طريق أخذتك إلى الثقافة، إجمالاً، وإلى علم الاجتماع، تخصيصاً؟

- كيف لي أن أرى، الآن، آفاقاً بعيدة، وأن أختصر الطريق؟ أكتفي بمشهد البداية، وبما يبدو لي مبدأً عاماً تحكّم، بعد ذلك، في رسم، أو في عدم رسم الطريق: المشهد هو مشهد الضرورات التي لم يكن التعليم واحداً منها، في صغري. أرض سرابية، شبه رعوية، جنوب الوسط التونسي، يحرّك أهلها تتبع الأمطار والمراعي. أذكر هذا المشهد لأشير إلى أنه لم يكن فيه موضوعياً، كما يقال، ما يؤهل لغير ضروراته. اللحظة المؤسسة لما عليه أنا الآن هي نور قذفه الله في قلب والدي، وفاجأ به المشهد. أما الطريق، بعد ذلك، فقد رسمته العلاقة بين الرغبة والصدفة. سأكون مدّعياً إذا حاولت أن أجد منطقاً ما بعدياً لمساري، وسأكون أكثر إدعاء إذا حاولت أن أبرر محطاتي المعرفية أو الفكرية بخيارات إرادية. توجهي نحو علم الاجتماع، مثلاً، لم يكن خياراً، وإنما كان محض صدفة، وكذلك كان توجهي إلى باريس. موضوع أطروحتي نفسه تغير من "ثقافة المهاجرين" إلى "سوسيولوجيا الغزل العربي" بفضل صدفة جمعتني بلوسيان غولدمان، لكنها صدفة صادفت رغبة قديمة. ذلك أن حبي الأول هو الأدب.

لكن هذا لا ينفي أن "سوسيولوجيا الغزل العربي" الذي صدر بالفرنسية ثم صدرت منه ثلاث ترجمات مختلفة إلى العربية كان عملاً جديداً من نوعه وأثر تأثيراً واسعاً في أوساط الطلبة والباحثين.

- أعتقد أن كلاً منا يكتب كتاباً واحداً في حياته. هذا إذا كتب. البقية تفرعات أو إضافات، وأحياناً تكرار بصيغ جديدة. لهذا السبب نميل إلى الاحتفاظ لأغلب المفكرين والمبدعين، بكتاب واحد، في ذاكرتنا. وعلى كل، فبالنسبة لي، أحتفظ لنفسي بكتاب "سوسيولوجيا الغزل العربي". أما تأثيره فله قصة، وقد تكون له مبررات علمية: القصة هي أن هذا الكتاب، بعد أن صدر بالفرنسية، لم يهتم به علماء الاجتماع العرب لأنه "أدب" وواجهه متخصصو الأدب لأنه "تدخل في الأدب" من قبل علماء الاجتماع. وأذكر أن ندوة عقدت، في تونس، بمشاركة أساطين الأدب العربي في الجامعة، للتشهير بهذا الكتاب وبتطفل صاحبه على الأدب وتاريخه. النتيجة أن طلبة الأدب أقبلوا على هذا الكتاب إقبالاً لم يكن منتظراً. أما الترجمة إلى العربية فلها دافع آخر: كتب المستشرق الفرنسي أندري ميكال عن الكتاب في جريدة لوموند، ثم نوه به في كتاب عن سيرته الذاتية، مشيراً إلى أنه لم يعد بالإمكان النظر إلى الشعر العذري، كما كنا ننظر إليه، بعد أن نطلع على "سوسيولوجيا الغزل العربي". تمّ الرجوع، أيضاً ومطولاً، إلى الكتاب، في كتاب صادر عن المدرسة الفرويدية التي يتزعمها المحلل النفسي لاكان. بعدها استشهد به رولان بارت. كان هذا كافياً لكي يلفت انتباه المتخصصين العرب وأن ينقلوه إلى العربية. لا أظن أن ترجمته كانت عن اطلاع وعن قناعة بقدر ما كانت تأثراً برأي غربي. على أن العبرة من كل هذا هو أن العرب الذين يحبون أدبهم ويمجدونه يتحفظون أو يترددون كثيراً في تحويله إلى مادة سوسيولوجية.

الكتاب له جانب منهجي ويقترح آليات لتحليل الإنتاج الأدبي، في علاقته بالواقع الاجتماعي، لكن ما هي، من حيث المضمون، أهم النتائج التي توصل إليها تحليل الظاهرة العذرية؟

-إجمالاً واختصاراً، بينت في هذا العمل أن "العالم العذري"، كما بناه الشعراء العذريون، لا يعبر، كما هو في الرأي السائد منذ القديم، عن امتثالية دينية أخلاقية، من نوع الورع والعفة وما شابه ذلك، وإنما عن هامشية اجتماعية، بل وحتى أيديولوجية. بنو عذرة، الذين هم عيّنة فقط، تبنت النموذج العذري وصاغته، وليست أصلاً له، كما يتردد، وجدوا أنفسهم، مع مجيء الإسلام، في وضع تؤكد المعطيات الأنتروبــــولوجية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجـــية أنه أصبح وضعاً هامشياً، بالنسبة للقوى الصاعدة آنذاك. هذه الهامشية عبروا عنـــها، رمزياً، بصورة المرأة "العذرية"، التي لا تـــُدرَك، امرأة "بلا جنس"، أي غير "منتجة"، مـــثلما هو رأس المال غير المنتج، بالنسبة لمــــن يُهمّشهم. هذا يعني، في نهاية الأمر، أن صورة المرأة في الشعر العذري لا تحيل على علاقة واقعية، في مستوى الممارسة، بين الرجل والمرأة، يمكن التساؤل عن صدقهــا أو زيفها. لا يهم، في هذه الحالة، إن كان قـــيس وليلى أو جميل وبثينة قد وجدوا، فعلاً، أو كانوا من صنع المخيال الجماعي. المهم أن هناك "استراتيجيا جنسية" لجأت إليها جماعة، باسم "العذرية"، لحل مشكل طرحه الواقــع عليها. لم أكن أتوقع أن نتائج البحث هذه، والتي كنت أول من تفاجأ بها، ستصـــدم الكثيرين، إلى حد منع الكتاب في بعض البلدان العربية. في البداية، ظننت أن ماركسيـــته هي السبب، ولكني الآن، مع المسافة الزمنــية، واثق من أن المخيال العربي لم يقبل تجريد العذريين من المـثالية التي ما يزال يتمثلها ويتغنى بها.

لو كان لك أن تعيد النظر في "سوسيولوجيا الغزل العربي"، ماذا كنت تعدل فيه؟

طلبت مني دار نشر فرنسية أن أعيد النظر فيه لتنشره، مع مقدمة يكتبها المستشرق أندري ميكال، وقد كتبها فعلاً، ولكني رفضت، مبرراً رفضي بأن الكتاب "شهادة" على مرحلة من التفكير، لا من وجهة شخصية وإنما من وجهة جيل كامل. شخصياً، أكره الاعتذار عن فكر مرتبط بمرحلة. عندما أنجزت العمل كانت المرحلة، تحديداً في فرنسا، مرحلة النيوماركسية، وكنت متأثراً بها، ومعجباً برموزها، ومنهم لوسيان غولدمان. ومع ذلك، لو أقبلت على إعادة النظر فإني، قطعاً، لن أتخلى عن المقاربة الماركسية، لأنه بدونها ينهار العمل كاملاً. ما أرى أنه عليّ إدراجه هو مفهوم الوسائط الذي كنت وجدته عند لوكاتش ثم عند لوسيان غولدمان، ولكني أهملته بلا مبرر. مفهوم الوسائط بين الفكر والواقع يخفف، بدون شك، من بعض الميكانيكية التي أرى أن عملي لم يكن تخلص منها، في ذلك الوقت.

تأثير لوسيان غولدمان واضح في عملك، بل إنك أشرت في مقدمة الكتاب إلى أنك تطبق البنيوية التوليدية التي نظّر لها، لكني أفترض أن اهتمامك بأنطونيو غرامشي ساهم في هذا الإحساس بالحاجة إلى إدراج بعض المرونة في المقاربة الماركسية.

صحيح. غرامشي هو الذي نبهني أكثر من غيره، وربما مع بولنتزاس، إلى حد ما، إلى أن العلاقة بين ما يسمى بنية فوقية وبنية تحتية هي أكثر مرونة مما احتفظتُ به من قراءاتي الأولى. قراءة غرامشي كانت، فعلاً، منعطفاً هاماً في نظرتي للظواهر الثقافية. خصصت له في الجامعة ثلاث سنوات من التدريس، وكان هذا في وقت تصوغ فيه الحركات التقدمية، وخاصة حركات الطلاب، ملامح المثقف العضوي المنتظر. طبعاً، تبين، في ما بعد، أن المثقف التقليدي أكثر عضوية، في الواقع، من المثقف العضوي. أعتقد أن غرامشي هو المفكر الذي اهتممت به أكثر من غيره. ساهمت، مع أربعة آخرين، في تأسيس الجمعية الدولية للدراسات الغرامشية في روما. كتاب "سوسيولوجيا الثقافة" الذي صدر في بلدان عربية مختلفة، بدون علم مني طبعاً، لم يكن إلا سياقاً لتمرير مقولات غرامشي وللتعريف بها. كتبت عنه، أيضاً، مقالات كانت خلاصتها المقال عن "غرامشي في الخطاب العربي" الذي ظهر في كتاب بالفرنسية، ثم في مجلة الطريق البيروتية. غرامشي، في هذا المقال الطويل والموثق، كان مثالاً لما يصبح عليه أي مفكر كبير يدخل الخطاب العربي المؤَدلج. اتضح، مثلاً، أن غرامشي في الخطاب العربي بدون غرامشية. كلٌّ يأخذ منه ما أراد أو ما استطاع. في المغرب العربي هو "مثقف"، بالدرجة الأولى، وفي المشرق هو "مناضل" في المقام الأول. أول من خصص ملفاً له في مجلد هي حركة إسلامية في تونس. مجتمعة المدني تسيب وأصبح يعني، رغم أنفه، عكس ما يعنيه، أصلاً، وهكذا... وبالمناسبة، فإني لم أكن أرى، في اهتمامي بغرامشي، أي جانب نضالي. كنت أهتم به كمفكر يستحق الاهـــتــمام، يساعد على فهم الواقع، لا أكثر.

من مساهماتك المعروفة، أيضاً، طرحك، مبكراً، لموضوع الآخر والآخرية، من منظور سوسيولوجي.

- حرب الخليج الأولى نبهتني إلى أن العرب لا يعرفون، بالقدر الكافي، ولا يفهمون الآخر الغربي. هم يتشكون دائماً من أنه يشوه صورتهم ولكنهم لا يتساءلون عن تشويههم، هم، لصورته، وكأنهم ذوو معرفةٍ دقيقة وموضوعية به. دعوت، باسم الجمعية العربية لعلم الاجتماع، عام 1993، إلى مؤتمر دولي شارك فيه حوالي مائتي عالم اجتماع من مناطق العالم المختلفة. وقد صدرت بعض أعمال هذا المؤتمر في كتاب "صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراً إليه"، ويصدر قريباً، في بريطانيا، بالإنكليزية. وليس من شك في أن هذا المؤتمر كان أول مناسبة علمية استعملت، بالعربية، مفهوم الآخرية كموضوع سوسيولوجي. وأذكر أن اشتقاق الآخرية واجه ردود فعل رافضة، ولكني أصررت على استعماله، موضحاً أنه أكثر دقة وحيادية، سوسيولوجياً، من مفهوم الغيرية التي دافع البعض على استعمالها. الآن أصبح المفهوم مستهلكاً. ومهما يكن، فإن ما ركزت عليه في تناولي هو أن صورة الآخر بناء في المخيال وأنها ليست الواقع، وإن كانت تلعب دوراً، كفضاء وكوسيلة صراع على الواقع. ثم إن ما يلفت الانتباه، من وجهة الصيرورة التاريخية للصورة، أن العرب لما كانت ثقافتهم واثقة من نفسها، غير مهزوزة، وكانوا غير مهددين من الخارج، كان مجال الآخرية واسعاً ومتعدداً، ولم يكن الآخر، بالنسبة إليهم، عدواً، بالضرورة. أما بعد أن تعرضوا للتهديد ثم للاستعمار، وبعد أن اهتزت ثقافتهم، نتيجة لذلك، فإن زاوية النظر إلى الآخر أصبحت حادة، بالمعنيين للكلمة. أصبح الآخر هو الغرب وتشنجت العلاقة به.

ما انعكاس هذه المساهمات، حسب رأيك، في الفكر العربي أو، على الأقل، في مجال العلوم الاجتماعية؟

- ليس لي أن أقول إن كانت هناك انعكاسات. في حدود ضيقة فقط، واعتماداً على ما كتب الآخرون، مثلاً في الكتاب التكريمي الصادر في تونس بعنوان "الثقافة والآخر"، يبدو أنني ساهمت في توجيه طلابي، أولاً، وبعض الأعمال، ثانياً، نحو سوسيولوجيا تفهمية، إجمالاً، ونحو مسارب بحثية غير مطروقة، في البحث السوسيولوجي العربي. هذا ما يقال، على الأقل. هناك مؤشرات أكثر وضوحاً، كما هو الحال مع غرامشي، إذ لا شك أن تدريسه، لأول مرة في الجامعة، كان له تأثير لدى الطلاب، وخاصة منهم من كانت له صلة بالحركات الطلابية. لم أكن أعلم ذلك في وقته، ولكنه اتضح في وقت لاحق، بعد سنوات.

يبـدو أنك متـــحفظ في ذكر تأثيرك، لكن من هم أبرز من تأثرت بهم، فكرياً، في حياتك؟

من الصعب أن يجيب أحد عن هذا السؤال، إذا اعتبــر أن فكره، في لحظة ما، هو حصـــيلة تفاعله مع كل ما تلقّى. الأمــر أسهل، نسبياً، في مجال التخـصص. إذا اعتبرت نفسي – وهذا لا أتمسك به – أني باحث في علم الاجتماع فيمكن أن أختزل القائمة في غرامشي الذي تحدثت عنه سابقاً، وغولدمان الذي وجهني إلى سـوسيولـوجيـا الإبداع الأدبي والفني، وبروديـل الذي وجهني إلى الكليات وإلى المدى الزمني الطويــل، ورولان بارت الذي وثق عندي عـــلاقة المعرفة بالمتعـة فأبعدنـي عن كل عمل لا متعة فيه.

ومن المتعة، طبعاً، أن تكون في العمل كتابة. وبما أني أذكر الكتابة كشرط من شروط الإنتاج، بما في ذلك السوسيـولوجي، فـــإني أضيف إلى قائـمة الذين أطالعــهم باستمرار كتاباً من نوع أبي حيان التوحيــدي والنَفّري وشعراء من نوع المتنبــي وأراغــون ودرويش وأدونيس.

أخيراً، ألا ترى أنه عليك أن تنتج أكثر؟

أنا مــقل في الكتابة. قد يكون هذا عجزاً أو كسلاً، ومع ذلك أشعر أحياناً بأن علي أن لا أكتب أكثر.

إن ما ألاحظه من طفرة الكلام ومن إفتاء كل من هب ودب في كل المواضيع، وخاصة في وسائل الإعلام، هو ظاهرة تبعث على الحيطة في الكتابة.

إن أغــــلب ما ينتشر في الــعـــالم العربي من المــكتـــــوب والمقول لا ينتــج معنى، بل على العكــــس من ذلك، هــــو يــنتج اللامعنى ويـــروّج له. لهـــذا أفـــضل أن أكون مــــقلاً.

وإذا صادف أن أكتب، يوماً، شيئاً يرضيني فطموحي أن يكون أقرب ما يكون إلى الأدب، حبي الأول. لم يعد لنا، في ما أعتقد، من إمكانية التعبير عن الوعي الممــكن إلا الإبداع الأدبي والفني. البقية، أغلبها تعبير عن وعي تجـــريبي، كثـــير الإدعاء، ولكن لا عـــمق له.

لبيب: الخطاب العربي انتقائي – حاوره د.فايز الصياغ
 
08-Nov-2007
 
العدد 1