العدد 45 - كتاب
 

من الطبيعي لصانع القرار أن يتوقع الأمور قبل أن تحدث، ومن المطلوب من أي إدارة في أي مؤسسة سواء في القطاع العام أو الخاص، أن تنظر من خلال إطار استراتيجي لنواتج الأمور ومحصّلة مجريات ما يحدث، وأن تضع سيناريوهات للاستجابة لهذه المجريات. فالمطالبة بأن يكون التفكير استراتيجياً في التعامل مع متغيرات الاقتصاد الأردني يجب ألاّ يؤخذ على أنه تعد على سلطات البعض أو استخفاف بمسؤولياتهم أو الحط من قدراتهم على إدارة الاقتصاد الأردني. وأخص هنا بالتساؤلات التالية، دون أي اعتذار، عما يحدث في الاقتصاد الأردني نتيجة ما أسماه البعض بتحرير قطاع الطاقة.

القرار بتحرير القطاع قرار صحيح من حيث المبدأ، غير أن التطبيق منقوص من عدة جوانب، ما عدا جانب واحد، وهو نقل عبء الارتفاع المستمر في أسعار المشتقات النفطية من الحكومة للمواطن، وهو الجانب الذي تتطلب الديموقراطية عدم القيام به. هذا الجزء من العملية فقط هو ما قامت به الحكومة بنجاح، غير أننا نتوقع منها أكثر من ذلك بكثير.

فتحرير القطاع، ولا أستند هنا الى نظريات أو كتب ذكية مستوردة أو مبادئ مشروعة عالمياً وأسس متفق عليها لمعنى كلمة «تحرير»، بل أعود لمن غابت ذاكرته الى تجربة قطاع الاتصالات، والتي يجب الاّ تكون بعيدة عن ذاكرة أولئك الذين عملوا في الحكومة منذ ذلك العهد، ونتمنى، بل نقول «نأمل» أن يكون بعضهم ما زال في الحكومة ليكون نصحهم وعلمهم وحكمتهم جزءاً من حوكمة الأمور والقرارات.

الحديث ليس عن الذكاء أو القدرات، أو حتى عمن سماهم البعض بالليبراليين الجدد، لأننا نظلم الليبراليين بدمج هؤلاء معهم، فالليبرالية مبادئ وأهداف أتحدى أن تكون من ضمن أجندات هؤلاء أو جزءاً من علمهم وعملهم، فغالبيتهم لا يستطيع حتى أن يعرّف معنى الليبرالية. لذلك فلنسم هؤلاء بالأذكياء، إذا أردنا أن نمدحهم، ولا يرغب الواحد منا هذه الأيام في أن يذم أو يمدح أحداً. وهنا أتذكر حواراً لن أنساه مع واحد من العارفين بخبايا العصر حين سألني على مائدة عشاء: «هل تعرف الوزير فلان؟ إنه وزير ذكي». فرددت عليه باهتمام ملحوظ: «ولكن إذا كان هذا الوزير ذكياً بحسب رأيك، فما قولك بالوزير فلان، وهو وزير كنت وما زلت أعتقد بأنه أفضل من خدم في منصب وزاري على مستوى المنطقة وبشهادة مراكز الفكر والبحث في العالم العربي؟» اجابني صديقي الحكيم بسرعة: «إن الوزير الذي ذكرت اسمه وزير حكيم». قلت: «وما الفرق؟» قال: «الوزير الذكي يعرف متى يجب أن يقفز من العربة؛ أما الوزير الحكيم فهو لا يركبها من الأساس». وما أفقرنا الى هؤلاء الحكماء الآن.

كان من المفروض قبل التحرير أن نبدأ بالسماح للمنافسة الفعلية بالدخول الى السوق في عملية تكرير مشتقات النفط لكي لا يكون المواطن تحت رحمة المحتكر الفعلي. أما أن نعلن عن تحرير القطاع ونقوم فقط بتحرير الأسعار ليكون واضع هوامشها منتجاً واحداً في البلد فهو تصرف قد يفهم على أنه محاولة أكيدة للتخلي عن مسؤوليات الحكومة المعهودة تجاه المواطن، ومنها توفير الطاقة بأسعار تتلاءم مع دخله الذي ساهمت الحكومات المتعاقبة في جعله متدنياً من خلال سياسات غير محفزة للأعمال ومن خلال التشوهات التي خلقها فشل الإدارات ولم ينحها بل راكمها تعاقب الحكومات من السوق رغم مرور عهود منذ بدأت عمليتا الإصلاح، وإعادة الهيكلة اللتان لم تحدثا إلا في الشكل وليس في الجوهر.

كما كان من باب الحكمة تقدير أن ارتفاع أسعار مشتقات النفط من خلال سياسة تسعير بدائية جدا سيؤدي الى رفع أعداد مستخدمي وسائط النقل العام، التي قدرت بنحو 2.5 مليون راكب يومياً، دون أي تحسين يذكر في نوعية ومستوى الخدمات المقدمة. السؤال الذي يطرح نفسه دون استحياء أو محاباة هو: ألم يكن من الجدير بالحكومة أن ترفع مستوى الخدمة قبل أن تحرر نفسها من عبء الدعم؟

ألم يكن من الأحرى قياس هذه الزيادة التي يتوقعها أي عاقل نتيجة ارتفاع الأسعار خلال شهور بنحو 40 بالمئة؟ العملية لا تتطلب نظريات أو تنظيراً، فنسبة المجبرين على استخدام وسائل النقل العام هم الغالبية العظمى من مستخدميها. وأي شخص درس علم الاقتصاد أو الإحصاء أو حتى لم يدرس أياً منهما ويستطيع أن يشغل كمبيوتر ويستعمل برنامج إكسل أو حتى ان يقوم بعملية حسابية على ورقة، يستطيع أن يقدر مدى الاستجابة لدى هذه المجموعة (وهي أكثر من 90 بالمائة من العدد كله)، فنحن لا نستعمل الباص لنرفه أنفسنا بل لأننا بحاجة الى ذلك. وبكل بساطة، مع مثل هذا الرفع، ستكون الزيادة 10-15 بالمئة ليصل العدد الى اكثر من 2.8 مليون راكب. ومع معرفة النتيجة لا يحتاج الأمر الى تنظير بل الى تدبير واستعداد لنتائج السياسات. فالاعتقاد بأن هذا العبء قد انزاح عن ظهر الحكومة اعتقاد خاطئ، فما زال الأردن والأردنيون بحاجة الى دفع ثمن ما يشترون بالعملات الصعبة، ما يشكل، مع ارتفاع أسعار الفاتورة بالنسبة للدينار (المربوط بدولار يتآكل)، العملة التي يتقاضى من خلالها الأردني دخله وتشكل غالبية إدخاراته، أعباء غير مسبوقة. أما أن يعتقد البعض، بكل بساطة أننا نستطيع أن ندفع ثمن ما نحتاجه من سلع وخدمات بعملات أخرى ترتفع أمام عملتنا، فهو فهم بدائي وخاطىء يخلو من أي دراسة أو علم لمبادئ الاقتصاد، وهي مبادئ بسيطة تعتمد المنطق، غير أنها تستعصي على الجاهلين.

وأين من ينفذ استراتيجيات تحسين مستوى خدمات النقل العام من حيث أعداد الوسائط وحداثتها وانتظام الترددات على المواقع التي أصبحت منذ سنين مخطوطات تصلح لدارسي التاريخ وعقلية التأجيل وتحوير الأمور؟ قبل 34 عاماً على وجه التحديد كنت أضبط ساعتي على موعد وصول القطار أو الباص في بريطانيا لما كان لهذه الحافلات ومشغليها من مصداقية في الانتظام بالوقت ومواعيد الوصول أو المغادرة. نعم منذ ثلاثة عهود ونصف... ألم يحن الوقت لذلك، ولغيرها من الخدمات المقدمة التي تسهل على المواطن التنقل من مكان لآخر دون الحاجة لاستخدام سيارته الخاصة أن تصبح افضل؟ ولماذا لم نحسّن من هذه الخدمات قبل أن نحرر القطاع؟

أين سياسات تحسين الاستثمار في قطاع الطاقة والنقل والصناعة للاستفادة من الحوافز المقدمة من قبل الحكومة؟ أين هذه الاستثمارات فعلاً؟ لا يوجد لأنه لا توجد حوافز غير تلك المنصوص عليها في قانون الاستثمار والتي غدت بالية لا تعني شيئاً للمستثمر. وأين مشروع القطار الخفيف بين عمان والزرقاء المتوقع وخدمة 100 ألف راكب يومياً؟

لماذا لا نضع الحصان أمام العربة ودائما نضع العربة أمام الحصان؟ لماذا نرفع الأسعار قبل أن نعمل على تخفيف وطئها على المواطن؟ سؤال آخر: متى يعود الحكماء الذين يعرفون متى تكون الكلفة أكثر من المنفعة لكي لا نستمر في ما يسميه علماء الإدارة بممارسة علم «إدارة الفزعات» وما ينتج عنها من تدني في مستوى الادارة والاقتصاد وسياسة القفز من المركبات؟. اتساءل دون اعتذار لأحد.

يوسف منصور: أسئلة لمن يرغب في ركوب العربات
 
25-Sep-2008
 
العدد 45