العدد 45 - كتاب
 

الزلزال العنيف الذي هزّ، وما زال يهز، بورصات المال والعملات المحلية، الإقليمية، والعالمية، لم يكن مفاجئاً، وجرى رصد كثير من مقدماته وتناقضاته وأزماته طيلة السنوات الماضية، التي كانت تتجه إلى الظهور والتفاقم مع انتقال الرأسمالية الدولية عموماً، والرأسمالية الأميركية خصوصاً، إلى مرحلة العولمة في تطورها وتركيزها على النشاطات المالية، النقدية، الخدمية والتبادلية، وتحقيق الأرباح الربعية في البورصات وأدواتها المستخدمة مقابل التراجع الحاد في تنمية الاقتصاد السلعي والغذائي والزراعي.

تعددت وتكاثرت مؤشرات الاختلالات، وكذلك التراجع في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وفي الأدوات والتوجهات الاقتصادية الانفتاحية، التي سادت أكثر في مرحلة إدارة الرئيس بوش المعروفة بيمينيتها في السياسة وفي الاقتصاد وفي المواقف الاجتماعية.

مقدمات الأزمة ثم حافة الانهيار الحالي تمثلت في وقائع تفاقم العجز في الموازنة الأميركية إلى مستويات غير مسبوقة، الذي نجم في جوهره عن تضخم النفقات العسكرية للتسلح، وللحروب في العراق وأفغانستان ومواقع أخرى إلى جانب تداعيات التعديلات الضريبية لصالح كبار رجال الأعمال والأثرياء، وتعظيم الإنفاق المساعد لنشاطهم، كما تواصل الارتفاع في عجز الميزان التجاري الأميركي لينعكس ما سبق على قفزة كبيرة في المديونية الأميركية إلى حوالي 9 تريليون دولار.

وبدلاً من معالجة تنموية جذرية ركزت السياسات الاقتصادية الليبرالية الأميركية على رفع أو تخفيض متكرر لأسعار الفائدة، وتكرر ذلك أكثر من مرة في الفترات الأخيرة وبحصاد متواضع.

وتراجعت في موازاة ذلك التغيرات السابقة معدلات النمو الربعية والسنوية للناتج المحلي الإجمالي ولينحدر المعدل في هذا العام إلى أقل من 1 في المئة، منذراً بدخول الاقتصاد الأميركي في تباطؤ يتسارع تحوله إلى كساد كبير، وليتوازى مع ذلك، ومع هبوط الثقة العامة للمنتجين والمستهلكين في الاقتصاد الأميركي، تحقق تصاعد متواصل في أعداد المتعطلين، وفي ارتفاع معدلات البطالة، لتتجاوز خلال شهر تموز السابق نسبة 6.1 في المئة، مرشحة للزيادة.

استمرار الاتجاه الهبوطي في سعر صرف الدولار مقابل اليورو والعملات الأخرى ودون توقف وبنسبة قاربت 50 بالمئة، ثم ارتفاعه خلال الشهرين الأخيرين بنسبة 10 في المئة، كان مؤشراً إضافياً على الأزمة العامة المتصاعدة في الاقتصاد الرأسمالي.

ولم يحدث في مراحل سابقة للتطور الرأسمالي أن حدثت تقلبات حادة وسريعة ومماثلة في أسعار النفط الخام والذهب وأسعار السلع الأساسية، وأيضاً التقلبات الشديدة في أسعار وأداء الأسواق المالية، إلى جانب تشوهات واختلالات عميقة، في علاقات التعاون الدولي حتى بالنسبة لموضوعات حيوية، مثل التعاون في مواجهة الاحتباس الحراري، تلوث البيئة، وقف امتداد التصحر، ومكافحة الفقر والمرض والأميّة.

مظاهر ومؤشرات الاختلالات واشتداد الأزمة الاقتصادية لم تقتصر على الاقتصاد الأميركي وأساسيات إدارته فقط، بل لوحظت وإن بدرجة أقل في اقتصاديات رأسمالية متطورة أخرى كانت تسير في التوجهات والسياسات الاقتصادية نفسها، وأيضاً، في اقتصاديات أقطار نامية، ومنها الأردن، الذي أفرط في تبني وتطبيق توصيات ومناهج اقتصادية أوصى بها صندوق النقد الدولي.

مقدمات الاختلالات السابقة شكلت تغيرات كمية متتابعة في الأزمة الاقتصادية العامة، وكان من المنتظر أن تتحول في لحظة ما إلى تغيّر نوعي كيفي قريب في تفاصيله وتشعباته ومخاطر تداعياته من معالم انهيار (Crash) العام 1929.

وبينما ملكت الرأسمالية أدوات ومداخل مساعدة وأكثر ملاءمة في المواجهة، وبرنامجاً اقتصادياً أكثر توازناً، للخروج من الأزمة، وإدارة أفضل للرئيس روزفلت في أزمة 1929، فإن الإمكانيات الحالية للتصدي تبدو هامشية وضعيفة وبعيدة عن تبني خيارات ومناهج أساسية، وهو ما يمكن استنتاجه من اقتصار المواجهة حتى الآن على قيام بنوك مركزية، «بضخ سيولة نقدية كبيرة للأسواق، لتعويم وإنقاذ شركات كبرى شاركت في الخطايا المسببة للتدهور»، وهو إجراء، بالإضافة إلى أنه لا يزيد عن كونه عاملاً مسكناً مؤقتاً، كما ثبت ذلك في حالات سابقة، فإنه من جهة أخرى يتم على حساب فرض عبء متزايد على الشريحة الأكبر من دافعي الضرائب من أصحاب الدخل المحدود المتدني والمتوسط، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وتقليص حاد آخر في نفقات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية الأساسية.

وما يدعو إلى التحسب والقلق أن وقائع التدهور تشير إلى أنه ما يزال في قلب العاصفة وفي بدايتها، وأن احتمال تفاقمه واشتداده في العمق وفي الامتداد الجغرافي مرجحة وقوية.

أحمد النمري: تدهور أسواق المال العالمية: انهيار 1929 من دون روزفلت
 
25-Sep-2008
 
العدد 45