العدد 45 - دولي
 

صلاح حزين

من المؤكد أن رئيس جنوب إفريقيا المعزول، ثابو مبيكي، لم يكن يتوقع في أكثر كوابيسه جموحا، أن تكون نهاية حياته السياسية على الصورة التي خرج بها من رئاسة البلاد، بعد أن كان خرج من رئاسة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في أواخر العام الماضي، على خلفية فساد سياسي تورط فيه مبيكي، حين لفق التهم لنائبه جاكوب زوما، وهو سياسي لا يقل دهاء عن مبيكي نفسه. وربما كانت هذه الحقيقة تحديدا هي التي جعلته يبدو مشدوها وغير مصدق لما يحدث. فقد كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي هو حياته لمدة تناهز نصف القرن.

كان مبيكي، الذي انضم إلى المؤتمر الوطني مبكرا، مقتفيا أثر والده، المناضل الشيوعي، الذي كان عضوا قياديا في الحزب الذي كان يوما ركنا من أركان المؤتمر الوطني الإفريقي، والذي كان يضم منظمات سياسية ونقابية عدة تجتمع على هدف إنهاء الحكم العنصري في جنوب إفريقيا. كان ذلك قبل أن يتحول "المؤتمر" إلى حزب، ثم إلى حزب حاكم في العام 1994. ومن المفارقات أن مبيكي لعب دورا رئيسيا في ذلك التحول بعد عودته إلى بلاده عقب الإفراج عن نلسون مانديلا من سجون النظام العنصري عام 1990.

وبعد أربعين عاما من النضال بوصفه عضوا قياديا في الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا، وفي المؤتمر الوطني الإفريقي، استقال مبيكي من موقعه في الحزب الشيوعي وتحول إلى قيادي في المؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان تحول إلى حزب، وخلال السنوات الخمس التي قضاها الزعيم الوطني نلسون مانديلا رئيسا للبلاد (بين 1994 و1999) كان مبيكي نائبه ويده اليمنى، وهذا تحديدا ما جعل من انتخابه رئيسا للبلاد خلفا لمانديلا أمرا متوقعا ومقبولا، لفترة رئاسية أولى، ثم لفترة أخرى هي هذه التي لم تكتمل. فما الذي جرى للزعيم الوطني، وللسياسي الحصيف ورئيس أكبر اقتصاد في القارة السمراء؟

يمكن الرد بإجابة مختصرة على هذا السؤال بالقول إن مبيكي ما قبل تسلمه منصب رئاسة جنوب إفريقيا، هو غير مبيكي الرئيس. فقد كان مبيكي قبل تسلم الرئاسة، إبان كان نائبا لمانديلا، يمثل الوجه المشرق لجنوب إفريقيا، سواء بتاريخه النضالي الطويل الذي قضى الشطر الأعظم منه في المنفى، أو بانخراطه في صوغ النموذج الذي عرفت به جنوب إفريقيا بعد عودته من المنفى، وهو نموذج قائم على التسامح والمصالحة مع الذات والخصم في آن. وهذا ما جعل مبيكي مقبولا من جانب البيض بمقدار ما كان مقبولا من جانب الأفارقة الأصليين.

أما مبيكي الرئيس، فقد تورط في عدد من الصفقات التي شابتها أوجه فساد مالي، من بينها صفقة لشراء أسلحة هي الأكبر في تاريخ البلاد، من دون أن يكون هناك مبرر لها، وهي صفقات كلفت بلايين الدولارات واكتنفها كثير من الغموض.

ويُتهم مبيكي الرئيس بأنه اتخذ موقفا متخلفا فيما يتعلق بالطريقة المثلى لمعالجة تحدي انتشار مرض الأيدز في البلاد، حيث يفتك هذا المرض بالآلاف سنويا، فهناك أكثر من خمسة ملايين مصاب به في جنوب إفريقيا معظمهم من الأفارقة، وبدلا من أن يوفر الدواء لهذه الملايين من المصابين بالمرض اتخذ موقفا يفرق بين حمل فايروس إتش آي في وبين الإصابة بالمرض، حيث أهمل علاج حاملي الفايروس لصالح المصابين بالمرض،

كما أنه ربط بين المرض وبين الفقر رافضا في الوقت نفسه النزول إلى الشارع لمواجهة المرض من خلال اتخاذ خطوات عملية، مكتفيا بمناقشة قضية على هذه الدرجة من الخطورة داخل دوائر نخبوية، حتى أنه واجه اتهامات بأنه السبب في موت مئات الآلاف من حاملي فيروس إتش آي في.

كما ارتبط اسم مبيكي الرئيس بمؤامرات حاكها مع عدد من أنصاره لإزاحة خصومه ومنافسيه المحتملين على الزعامة، من أمثال سيريل راما فوزا، الأمين العام السابق لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وكبير المفاوضين مع حكومة جنوب إفريقيا العنصرية، وتوكيو سكسوالي ومافيوز فوزا، وهما رئيسي حكومتين محليتين ومن كبار قادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

لكن الخطوة التي قادته إلى نهايته كانت محاولته إقصاء نائبه جاكوب زوما عام 2005.

في ذلك العام واجه المستشار المالي لجاكوب زوما حكما بالسجن 15 عاما بتهمة فساد مالي، فما كان من مبيكي إلا أن أقال زوما، وهو قرار برره مبيكي بأنه جاء لمصلحة الوطن. ولكن زوما شك في أن تلك الخطوة إنما جاءت لأن مبيكي رأى فيه منافسا محتملا، فبدأت بين الرجلين حرب لا هوادة فيها على الزعامة السياسية في البلاد، كانت ساحاتها مؤتمرات وكواليس حزب المؤتمر، وقاعات المحاكم. وقد خسر مبيكي جولته الأولى في كانون الثاني/ديسمبر من العام الماضي حين انتخب الحزب زوما لرئاسته بدلا من مبيكي، وقبل أيام أعاد القاضي في المحكمة العليا كريس نيكولسون النظر في قضية إقالة زوما بعد أن اكتشف أن مبيكي كان ضالعا في القضية.

وكان ذلك كافيا لأن يتحرك حزب المؤتمر مطالبا مبيكي بالاستقالة، وهو أمر لم يكن أمام مبيكي إلا أن يمتثل له.

لم تكن مسيرة مبيكي بوصفه رئيسا لجنوب إفريقيا سوداء تماما، فهو حقق تقدما اقتصاديا كبيرا، وأنفق الكثير على محاربة الفقر في البلاد، وعلى صعيد السياسة الخارجية، لعب دورا مهما في التوسط بين الحكومة والمعارضة في زيمبابوي لتقاسم السلطة. ولكن ذلك كله لم يشفع له خطأه القاتل الذي لم يترك سوى قليل من السياسيين ممن هم على استعداد للدفاع عنه، هو المناضل الذي كان يوما محط إجماع الأوساط السياسة في جنوب إفريقيا، بمن فيهم خصومه.

ثابو مبيكي: نهاية غير مشرفة لمسيرة نضالية طويلة
 
25-Sep-2008
 
العدد 45