العدد 45 - اقليمي | ||||||||||||||
داليا حداد منذ آذار/ مارس الماضي والأخبار والتصريحات والتقارير الصحفية لا تتوقف عن الاتفاقية الأمنية طويلة الأمد المزمع توقيعها بين العراق والولايات المتحدة. وقد بدأت المفاوضات حول الاتفاقية (جرى في البداية اعتبارها معاهدة، لكنها تغيرت إلى اتفاقية استجابة للرفض الشعبي الذي واجهته داخل العراق) عقب توقيع اتفاقية مبادئ بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس الأميركي جورج بوش، إبان زيارة الأول لواشنطن في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي. مساعي الولايات المتحدة لتوقيع اتفاقية تعود لانتهاء العمل بقرار الأمم المتحدة، الذي صدر في العام 2004، ومنح غطاءً دوليا لوجود القوات الأميركية في العراق، والذي يجري تمديده سنوياً بطلب من الحكومة العراقية منذ ذلك الحين، إلا أن العمل به سينتهي نهائياً في ختام العام الجاري. بهذا تفاوض واشنطن الحكومة العراقية منذ ستة أشهر للتوقيع على اتفاقية أمنية تشرع وتقنن وجود قوات أميركية في العراق. يذكر أن الولايات المتحدة ترتبط بمعاهدات مشابهة مع نحو سبعين دولة في العالم. ويسمى هذا النوع من المعاهدات بـ «اتفاقيات وضع القوات» SOFAS، وتحدد أهداف الوجود العسكري الأميركي في هذه الدول، وطرق تمويلها وعلاقتها مع القضاء المحلي. ونظراً لأن هذه الاتفاقية ترتبط بمصير العراق والإقليم، فإنه من الأهمية بمكان التعرف إلى موقف القوى السياسية العراقية وبعض الدول المجاورة منها، واستقراء النقاط الأساسية التي تتضمنها الاتفاقية المزمعة لأبعادها الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد. آخر موقف عبرت عنه للحكومة العراقية من الاتفاقية، أعلنه رئيس الوزراء نوري المالكي الأربعاء، 17 أيلول/ سبتمبر الجاري، حينما قال في حديث لرؤساء عدد من المحطات الفضائية المحلية إن بلاده بحثت مع الجانب الأميركي آخر مسودة مشتركة وقدم مقترحاته عليها، موضحا أن الجانب الآخر طلب مهلة عشرة أيام للذهاب الى واشنطن والعودة بالرد. لكن "مهلة العشرة أيام انتهت ولم يأت الرد الاميركي". وقال المالكي إنه في حال راعت واشنطن المطالب العراقية، فستوضع الصيغة النهائية وتعرض الاتفاقية على البرلمان للتصويت عليها. اما اذا جاءت بصورة مخالفة للمطالب فستوضع الصيغة النهائية بما فيها مقترحاتنا للجانب الأميركي وتعرض على البرلمان وله حق رفضها او قبولها. وأكد المالكي إن المفاوضات لم تنته بعد، وهناك احتمال اللجوء إلى بدائل في حال رفض الأميركيون المطالب العراقية، مشيراً إلى أن الأميركيين يبدون مرونة كبيرة في التفاوض. وختم المالكي حديثه بأن عدم تمرير الاتفاقية سيشكل كارثة سياسية وحرجاً للبلدين على حد سواء. وفي اليوم نفسه أعرب البيت الابيض، عن ثقته بأن الاتفاقية سيتم التوقيع عليها في نهاية العام الجاري قبل انتهاء تفويض مجلس الأمن للقوات الأميركية، لإخراج العراق من البند السابع. في حين أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس أن المفاوضين الأميركيين سيصلون الى بغداد حاملين معهم بعض الأفكار التي «لعلها ترضي المطالب العراقية ومطالبنا في بعض القضايا المتبقية». ونقلت «نيويورك تايمز» عن غيتس قوله، «إن الإدارة مستعدة لتقديم مقترحات حل وسط، في جهد منها لتجاوز الاعتراضات العراقية، التي اعترف بأنها تركز على الحصانة وسلطة احتجاز عراقيين واعتقالهم». وقالت الصحيفة على لسان مفاوضين عراقيين وأميركيين، إن نقطة الخلاف الرئيسة المتبقية تتعلق بالحصانة. واشنطن تدافع عن فكرة أن تكون لقواتها والمتعاقدين العسكريين معها الحماية نفسها، التي يحظون بها في بلدان أخرى لهم وجود فيها، فيما تتمسك بغداد بأن يكونوا تحت سلطة النظام القضائي العراقي في حال اقترافهم أية جريمة خارج العمليات العسكرية. وكشفت الصحيفة أن السفير الأميركي ببغداد، راين كروكر، قاد المفاوضات من الجانب الأميركي، مع مسؤولين اثنين كبيرين من واشنطن، هما: ديفيد ساترفيلد من وزارة الخارجية، وبريت ماكغارك من مجلس الأمن القومي. و الأخيران أمضيا شهوراً في العراق خلال العام الجاري. داخلياً لم يكن يتوقع نوري المالكي رفضاً شعبياً واسعاً لهذه الاتفاقية، فبالنسبة للقوى الشيعية بدأ الاعتراض بدعوة مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، لأنصاره للخروج للتظاهر عقب صلاة كل جمعة، وهو ما حدث بالفعل، وكان يغلب على التظاهرات في بدايتها السواد إعلانًا عن هوية أصحابها. بعد ذلك انضم المزيد من الألوان ليتسع نطاق التظاهرات ويشمل تيارات أخرى. تزامن ذلك مع تنبه المالكي، أو ربما نبهه آخرون إلى اتفاقية مماثلة أبرمت بين العراق وبريطانيا العام 1948 على ظهر البارجة البريطانية فيكتوريا، وتصدت لها الجماهير العراقية بتوجيه وإسناد من المرجعيات الدينية، ما ترتب على ذلك إسقاط حكومة "صالح جبر" رئيس الوزراء العراقي حينئذ، والذي وقع تلك الاتفاقية التي سقطت تلقائيًا بسقوط الحكومة. وبتأثير من إيران أعلن قادة سياسيون شيعة عديدون، معارضتهم التدريجية للاتفاقية بعد أن روجوا لها من قبل، ويبررون التوقيع عليها بواقع الحال في الكثير من دول المنطقة كتركيا ودول الخليج العربية ودول أخرى في العالم مثل كوريا الجنوبية والفلبين واليابان. أما القوى السياسية السنية فرغم معارضتها للوجود الأجنبي، فإنها لا تملك المقدرة على مواجهة الغضب الأميركي خصوصاً عند النخبة منها؛ ما يجعل من الصعب عليها إعلان موقف واضح معارض لهذه الاتفاقية، إلا أن هناك أمرا يخص العرب السنة بالذات ويجعلهم أكثر ميلاً لهذه الاتفاقية، وهو التغلغل الإيراني داخل العراق، ومساندة إيران لبعض التيارات الشيعية المتشددة، التي تشكل تهديداً مباشراً للعرب السنة، ما جعل الولايات المتحدة تشجع تشكيل ميليشيات الصحوة، بما يؤسس لتوازن خطر داخل العراق؛ مستندين الى أن الاتفاقية تشكل كابحاً لجموح التغلغل الإيراني وربما صمام أمان لهم ضده، رغم ذلك لم يتردد نواب سنة في القول صراحةً إن الاتفاقية لا تخدم مصالح العراق، فهناك طرف محتل بيده زمام الأمور، ولديه القوة على الأرض ويسيطر على الأجواء، وهناك طرف آخر ضعيف متمثل بالجانب العراقي يعيش تحت ظل الاحتلال، فكيف تنشأ اتفاقية متوازنة؟!. أما الأكراد فيؤيدون بلا تردد توقيع الاتفاقية، بل يطالبون بها، منوهين إلى إيجابياتها ومقللين من آثارها السلبية. وإذا كان هناك تناقض قائم بين النخبة والشارع بالنسبة للعرب السنة والشيعة، فإن المسألة على العكس من ذلك لدى الأكراد؛ فهناك توحد شبه كامل بين الزعامات الكردية والرأي العام الكردي إزاء هذه الاتفاقية. تصريحات القيادات الكردية بشأنها (الطلباني، والبرزاني، والزيباري) تلتقي على تأييد الاتفاقية، والتأكيد بين الحين والآخر على أن المفاوضات تسير في طريقها بإيجابية.. وتفسير ذلك واضح، فما تحقق لهم حتى الآن تصعب المحافظة عليه من دون حماية أجنبية. بين الدول المجاورة للعراق يُعد الموقف الإيراني من الاتفاقية هو الأبرز، ويتمثل بالرفض المطلق لها. وكان لافتا جداً أن الإيرانيين سبقوا العراقيين في رفضهم للاتفاقية، من واقع أن النقاش حولها كان يدور في الأروقة الإيرانية أكثر منه داخل العراق صاحب الشأن، وذلك ربما لأن إيران معنية، كما يبدو أكثر من الرسميين العراقيين، بمصالحها وأمنها القومي. بدت بالفعل أشد اهتماما بهذه الاتفاقية من بعض العراقيين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمكاسب حزبية أو طائفية يحرص عليها كثير من سياسيي العراق الجديد. وكان المرجع الديني كاظم الحائري، المعروف بقربه من علي خامنئي، أول من تحرك ضد الاتفاقية، وأصدر من مقر إقامته في مدينة قم فتوى حرم فيها التوقيع على الاتفاقية، فسارع مقتدى الصدر، رغم ما يقال عن فتور في علاقته مع الحائري وطهران، إلى تبني الفتوى والدعوة للتظاهر ضد الاتفاقية، بوقت سبق موقف المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف. وفي 9 ايلول/ سبتمبر الجاري أعلن رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني رفض بلاده الاتفاقية، معتبراً أن الولايات المتحدة تحاول من خلالها تثبيت تواجدها البعيد المدى في العراق والمنطقة. أما السفير الإيراني في العراق حسن كاظمي قمي، فتحدث بمنطق آخر قائلاً: إن «الاتفاقية لا تثير قلق إيران وإنها شأن عراقي، وإن إيران قادرة على الدفاع عن نفسها إزاء المخاطر التي قد تواجهها. وهو ادعاء مشكوك به، فأشد ما تخشاه إيران هو بقاء قواعد وقوات أميركية قرب حدودها»، فضلاً عن أن الوجود الأميركي داخل العراق، يحد من فرص بسط نفوذها الكامل على هذا البلد، وهو ما تسعى إلى تحقيقه منذ بدء الاحتلال. |
|
|||||||||||||