العدد 44 - كتاب | ||||||||||||||
كان زميل قد أحاط قبل أسابيع كاتب هذه السطور بأن أفواجاً من الناس، بلا حصر، يندفعون لتوظيف مدخراتهم وممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة، في بورصات أجنبية عبر الإنترنت وبوساطة شركات محلية. قال الصديق يومها: إن ريفيين من أبناء قريته في الشمال يبيعون أراضيهم وما تمتلكه النساء من مصاغ ذهبي، وما يمتلكه الرجال من قلابات وتراكتورات للالتحاق ببورصات عالمية. صحافتنا بما فيها «السّجل» لم تضع هذه الظاهرة قبل انفجارها موضع التأمل. فكيف تأتى لريفيين وغير ريفيين، أن يندفعوا جماعات وفرادى الى هذا الضرب من التسابق على الثراء السريع، وطرحوا عنهم كل خبراتهم المتوارثة والمستجدة، في العمل والجد وأساليب تحسين الأحوال، ولجأوا بدلاً من ذلك الى ما يشبه المقامرة، وانجرفوا الى ما لا يخبرونه وما يجهولونه من أساليب المضاربة؟. كان الأمر سيصبح أقرب الى المنطق، لو أن آلاف المساهمين، يمموا وجوههم شطر سوق عمان المالي مثلاً، فهم في هذه الحالة بوسعهم السؤال عن الشركات الكبيرة و«القوية»، أو تلك الواعدة ويتخيرون من بينها أهدافاً لاستثماراتهم، فيقتنون أسهماً فيها بأقل قدر من المجازفة، بدل الذهاب الى المجهول، هذا إذا كان لا بد من بيع أرض موروثة عن الأجداد لتحقيق هذه الغاية. (بورصة عمان لا فرع لها في عاصمة الشمال إربد، فاضطر الطامحون للجوء الى بورصات وراء البحار..). التحولات في المجتمع بلغت هذا المدى، دون علم واهتمام أحد من الدارسين وأهل الاختصاص ومراكز البحث ومنابر الرأي العام، وكذلك النواب حيث ترددت أنباء عن تذمر الأهالي في الشمال من غياب ممثليهم عن هذه القضية..علماً بأن الناس الراشدين ليسوا بحاجة الى مرجعية نيابية لتدبير أمور حياتهم وشؤونهم الخاصة، والتمييز بين ما هو منطقي وخرافي. قبل عقدين من الزمن وقعت واقعة مشابهة في الكويت سميت بـ«سوق المناخ»، تعلقت بسوق الكويت المالي لا ببورصات أجنبية، وتفجرت في مصر بعد ذلك فضيحة «الريان» وتتعلق بشركة توظيف أموال «حسب الشريعة» وأكل أصحابها مدخرات الغلابى. غير أن الناس عندنا لديهم من الاعتداد والثقة بالنفس، ورفض التعلم من تجارب الآخرين وحتى الفضول للاطلاع عليها، ما يجعلهم يندفعون للتعلم «من كيسهم» وكما يحدث مع الفتيان حديثي العهد بتجارب الحياة. لنا أن نتخيل أي مستقبل للبلاد والأجيال الجديدة، مع استشراء قيم اللهاث وراء الثراء السريع، وازدراء العمل والمثابرة، وتمادي الاستخفاف بالإنتاج، وهجرة الزراعة والأرض، والنزوح من الريف، والتقلب الفجائي من الاكتفاء إلى الفقر، ومن العوز الى الثراء..وأية خلخلة اجتماعية وفردية يمكن أن تحدث، ومن هي القوى التي يسعها المسارعة لملء الفجوات الناشئة وعلى طريقتها. وبخاصة أن مناطق الريف باتت مسرحاً لهذه التحولات الدراماتيكية، ولم يعد الأمر مقتصراً على المدن فقط. مع ذلك هناك من يستخف بهذه التحولات ويقفز عنها، باسم الخوض في القضايا «الكبيرة والوطنية»، وكأن الأوطان يمكن أن تزدهر والأهداف الوطنية يمكن أن تتحقق، فيما الأزمات «البنيوية» تعصف بسلوك وقيم الأفراد وبنسيج الجماعات. |
|
|||||||||||||