العدد 44 - ثقافي
 

عواد علي

في صباح من أصبحة ربيع العام 399 قبل الميلاد، وقف الفيلسوف اليوناني سقراط، بلحية بيضاء وثياب رثة، أمام 501 قاض في مدينة أثينا، التي كثرت فيها الأحقاد، وتعددت حوادث تصفية الحسابات إثر هزيمتها أمام سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة. كانت التهمة الموجهة إليه ذات شقين: عدم إيمانه بآلهة المدينة، وإفساد الشباب. حقيقة الأمر أن الفيلسوف كان يجوب الأسواق والطرقات محدّثاً الناس عن الحكمة والعدل والفضيلة، انطلاقاً من إيمان راسخ بأن لديه في الحياة رسالة يؤديها. إلاّ أن "فقهاء الظلام"، الذين يرون في إعمال العقل خروجا على الناموس وإخلالا بنظام الكون، ويرون في الفكر عملاً لا شأن للبشر به، ناصبوه العداء وقدموه للمحكمة، وكان عقابه الموت بالسم.

هذه الواقعة التي انتهكت فيها حرية الفكر، وما زال الجدل مستمراً حولها إلى يومنا هذا، لها ما يشابهها في تاريخ شعوب الأرض، ومنها نحن العرب. وإذا كانت المكارثية (حملة قادها السناتور الجمهوري الأميركي جوزيف مكارثي ما بين 1950- 1955 لمحاكمة عشرات المفكرين والأدباء والفنانين بتهمة "النشاط المعادي" لأميركا) آخر فضائح التضييق على حرية الفكر والإبداع في العالم المتمدن، فإن بعض العرب ومعهم بعض المسلمين، ما زالوا حتى الآن "يستلهمون" ما في تاريخهم من محن انتهاك تلك الحرية ويطبقونها من دون مراعاة، لا للمواثيق الدولية ولا للميراث الإسلامي لحرية الاعتقاد (ينسب إلى الإمام مالك بن أنس أنه إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر؛ في حين ظل الإمام الخميني طوال حياته "يفخر بالفتوى التي أصدرها بقتل المفكر الإيراني أحمد كسراوي سنة 1947"، ولما سئل العام 1979 عن سبب إصداره أمراً بإعدام المعارضين دون محاكمة أجاب: "لأنهم مذنبون، ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم").

فقهاء ومتصوفة وشعراء وعلماء، تعرضوا في تاريخنا لمحن ومحاكمات شتى بسبب الوقوف على الضد من أيديولوجية الدولة الرسمية، أو بسبب أفكارهم واجتهاداتهم، فألصقت بهم تهم الزندقة والإلحاد. من أشهر المحن ما حدث للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، فقد نُفي من المدينة مرتين بسبب آرائه وأفكاره التي جاءت مخالفة لرأي أصحاب المصالح في عصره: مرةً إلى الشام، ومرةً إلى قرية معزولة اسمها «الربذة»، تشق الحياة فيها حتى على الزاهدين، وهناك مات بعد عامين. وكانت محنة أحمد بن حنبل، أحد أكبر فقهاء الإسلام، أنكى وأشد، فقد ألقى به الخليفة المأمون في السجن مكبلاً بالأغلال لأنه خالفه في الرأي، وحين تولى المعتصم الخلافة أمر بتعذيبه بالسياط حتى شارف على الموت، فأعادوه إلى أهله حطاماً. ومن بعده كانت مأساة الحلاج، الذي سجن لثمان سنوات متواصلة، ثم حاكموه على مدى سبعة أشهر، وفي نهاية المطاف قيدوه وأوسعوه جلداً، ثم صلبوه وقطعوا رأسه وأحرقوه، لا لشيء إلاّ لأنه كان يطوف داعياً إلى التصوف، وبوصفه من أهل الوجد والجدل.

في العصر الحديث كانت محاكمة العالم المصري الأزهري القاضي علي عبدالرازق العام 1925، على كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، أولى المحاكمات الكبرى لأصحاب الفكر، وكان مدار مقولته فيه: «إن نظام الخلافة والإمامة غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة للدين عند المسلمين من كتاب أو سنة أو إجماع». وبلغ عدد التهم التي وُجّهت له سبع تهم تصب كلها في «الطعن في الدين»، إرضاءً لحاكم مصر آنذاك، الذي أمر بهذه المحاكمة لأن المؤلف بدد أحلامه في أن يكون خليفة المسلمين بعد انتهاء الخلافة مع زوال الدولة العثمانية. صدر حكم هيئة كبار العلماء على الشيخ علي عبدالرازق بتجريده من لقبه العلمي، وطرده من زمرة كبار العلماء وفصله من وظيفته، وحرمانه من العمل أو تقاضي أجر من أية جهة حكومية أو غير حكومية!

بعد أقل من عام أحيل طه حسين للنيابة للتحقيق معه إثر ثلاثة بلاغات رُفعت ضده تجمع على أنه عمد في كتابه «في الشعر الجاهلي» للطعن في حقيقة نسب الرسول الكريم، وإنكار أن للإسلام أوليّة في بلاد العرب، والزعم أن القراءات السبع غير منزلة من عند الله، بل هي نتيجة اختلاف في اللهجات العربية. وبعد مناقشة مستفيضة غنية فكرية وفقهية وقانونية وتاريخية لكل مزاعم مقدمي البلاغات، أصدر المحقق محمد نور، رئيس النيابة، قراراً قضى برد الدعاوى وحفظ الأوراق. من حسن الطالع أن ذلك المحقق كان شخصيةً ذات ثقافة موسوعية، مكّنته من الرجوع لكل المصادر التي رجع إليها طه حسين، وقراءتها واستيعابها إلى حد مكّنه من مناقشته ومحاورته والكشف عن مواطن الصواب والخطأ في كتابه. ورغم ذلك كله، يرى بعض الباحثين أنه لا يمكن التسليم بأن طه حسين خرج من هذه المعركة دون أن يمسه منها أذى، فليس قليلاً أن يُتهم المرء في عقيدته، ويشكك في ضميره، ويُنسب اليه ما لم يقصده.

في العام 1964 احتجزت شرطة الآداب اللبنانية الروائية والقاصة ليلى بعلبكي، واستجوبتها وأحالتها على المحاكمة بتهمة المس بالأخلاق العامة من خلال التعابير الواردة في مجموعتها القصصية "سفينة حنان إلى القمر"، التي صادرتها وزارة الإعلام. وطالبت النيابة العامة بمادة تقضي بحبس المؤلفة من شهر إلى ستة أشهر وبتغريمها من 10 ليرات إلى 100 ليرة. صحف أجنبية كبيرة تابعت القضية ودافعت عن الكاتبة، مثل "الأوبزرفر" و"جون افريك" و"فرانس سوار" و"ديلي اكسبرس"، ووصل بعلبكي عرضان من دارين للنشر في بريطانيا وأميركا لنشر مجموعتها المصادرة، كما منحها نادي "الفوبور" في بيروت جائزته لتمسكها بحرية التعبير. كان لذلك تأثير كبير في مجرى المحكمة، ألتي حكمت ببراءة الكاتبة ورفع قرار المصادرة عن كتابها. وبعد أربع سنوات أحيل إلى القضاء اللبناني، صادق جلال العظم بسبب كتابه "نقد الفكر الديني" الصادر العام 1969.

ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي اتخذت عمليات التضييق على حرية الفكر والإبداع أشكالاً مختلفة تندرج تحت ما يطلق عليه مرة اسم "المصلحة العامة"، وأخرى اسم "الدين" أو "الأخلاق". وهي تسميات أريد بها تسويغ عمليات القمع الفكري وهيمنة الرقابة الجامدة على الإبداع بألوانه المختلفة. لقد جرت محاكمات للفكر والمفكرين ومصادرة لأعمال إبداعية أدبية وفنية، بل وأعمال تراثية كانت ميسورة التداول على مدى سنوات طويلة من قبل، مثل كتاب "ألف ليلة وليلة"، و"الفتوحات المكية" للصوفي الكبير محيي الدين بن عربي. ثم قبل ذلك وبعده كانت محاكمة العديد من البحوث والدراسات المهمة، من بينها كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للويس عوض، وكتاب "المسلمون والأقباط في إطار الحركة الوطنية" للمؤرخ المستشار طارق البشري، وكتاب "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد، وكتاب "الله والإنسان" لمصطفى محمود.

هذه الكتب جميعها جرى تقويمها ورفضها على أساس ديني بحت، وكذلك كان أساس التقييم لأعمال أخرى أدبية وفنية، من بينها رواية "مسافة في عقل رجل" ورواية "الفراش" للكاتب علاء الدين حامد، وديوان "آية جيم" للشاعر حسن طلب، وكتاب "الوصايا في عشق النساء» للشاعر أحمد الشهاوي، وديوان «شجري أعلى» للشاعر موسى حوامدة، الذي استمرت محاكمته خمس سنوات أمام محاكم شرعية ومدنية في عمّان. وجرت محاكمة الفنان مارسيل خليفة لغنائه قصيدة «أنا يوسف يا أبي» للشاعر محمود درويش. وكانت التهمة، طبعاً، «تحقير الشعائر الدينية». استمرت المحاكمة، التي انتهت ببراءة الفنان، أكثر من سنتين رفض خلالها هذه التهمة والمحاكمة من الأساس معبّراً عن شعوره بالمرارة لمثوله أمام القضاء كمجرم، وهو الذي أمضى حياته يدافع عن قضايا العرب والقضية الفلسطينية من خلال الكلمة واللحن والصوت. وأخيراً هناك من ذهب للقضاء للحصول على حكم بمصادرة فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين، وحظر عرضه داخل مصر أو خارجها بزعم أن قصته هي قصة النبي يوسف.

إلى جانب المحاكمات والمنع والمصادرات، جرت عمليات تكفير لمفكرين وكتّاب، مثل: حيدر حيدر، الذي أصدر العلامة يوسف القرضاوي فتوى بتكفيره بسبب روايته "وليمة لأعشاب البحر"، و"تكفير كل من يقول عنها إنها إبداع"، أي أغلبية المثقفين والمبدعين والنقاد في مصر والعالم العربي؛ وكذلك المفكر نصر حامد أبو زيد، الذي حكم عليه بالردة، ومن ثم "وجب التفريق بينه وبين زوجته المسلمة"، فاضطر للجوء إلى هولندا.

وتعرض عدد آخر من المفكرين والمبدعين للقتل من دون محاكمة، مثل: العراقي عزيز السيد جاسم، والشاعر الجزائري الطاهر جعوط، ومواطنيه الفنان عبد القادر علولة والجامعي الجيلالي اليابس، والمفكرين اللبنانيين مهدي عامل، وحسين مروة. أما المتصوف السوداني محمد محمود طه فقد قضت محكمة في الخرطوم بشنقه في عهد حسن الترابي، عام 1985، بتهمة "الردة". وفي العام 1999 أقرت محكمة الاستئناف في الخرطوم، أيضاً، الحكم على أحد الفنانين بـ 260 جلدة بالتهمة التفتيشية التي نفض الإسلاميون عنها الغبار: "الإساءة إلى الدين".

في إيران، أهدر البوليس السياسي الإسلامي باسم "قانون الجزاء الإسلامي" دماء 180 مثقفاً إيرانياً سُجلوا على "القائمة السوداء" الشهيرة، اغتيل منهم أربعة، ولولا تدخل الرئيس محمد خاتمي لكان بقية أعضاء القائمة اليوم في عداد الأموات.

حدث ذلك، وهو غيض من فيض، في عالمنا العربي والإسلامي، رغم أن جميع دساتير دوله تكفل حرية الرأي والفكر والتعبير. هكذا أصبحت هذه "الحرية"، التي قال عنها يوسف إدريس إنها لا تكفي كاتباً واحداً، ضحية "إرهاب دوغمائي" ، يحتمي بسلطة القضاء، ويتعلل بأعراف دينية واجتماعية ومواقف سياسية؛ وهو ما أثر سلباً في الإنتاج الفكري والإبداعي، حيث أصبحت الكتابة محاصرة بين مقص الرقيب ومطرقة المحاكمات وسيف الجلاد. تحت ضغط هذه الإكراهات صار المبدع مطالباً بالتفكير القبلي في كل كتابة، بما يمثل ضرباً من الرقابة الداخلية يغلفها الخوف الدائم من سوء التأويل والتقييم، كما تقول الباحثة المغربية وفاء سلاوي في كتابها «فقه المحاكمات الأدبية والفكرية»، الصادر في العام الماضي عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

قوانين حاكمة للنصوص الفكرية والأدبية: حرية التعبير في مواجهة “مكارثية شرقية”
 
18-Sep-2008
 
العدد 44