العدد 44 - ثقافي
 

محمود منير

هل بإمكان الدراما أن تنصف المنجز الروائي للراحل غالب هلسا الذي طردته الجغرافيا العربية مدينةً تلو الأخرى، من عمّان إلى القاهرة فبغداد فبيروت، إلى دمشق التي توفي بها ليعود في كفن إلى وطنه.

يُطرح هذا السؤال بعد رحلة في المنافي، كتب هلسا من الروايات خلالها: "الضحك"، "الخماسين"، "السؤال"، "البكاء على الأطلال"، "ثلاثة وجوه لبغداد"، "الروائيون"، و"سلطانة" التي حُولت أخيراً لمسلسل تلفزيوني بثته قناة "روتانا خليجية"، وحظي بنسبة مشاهدة عالية كما تؤكد استطلاعات الرأي. فهل باستطاعة هذا العمل الكشفَ عن جوانب من إبداع هلسا الذي نال في حياته، وبعد رحيله أيضاً، أقل مما ناله أيٌّ من نظرائه العرب من اهتمام وتقدير.

"سلطانة" الذي أخرجه الأردني إياد الخزوز عن سيناريو كتبه وأعده السيناريست الراحل غسان نزال لرواية "سلطانة" وعملين قصصيين آخرين لهلسا هما: "وديع والقديسة ميلادة"، و"زنوج وبدو وفلاحون"، يؤكد ضرورة العودة لتراث غالب الذي كتب أعمالاً رصدت تشكّل المجتمع الأردني الحديث في بدايات القرن العشرين وحتى الخمسينيات، وهي فترة تحظى بالتباس وإهمال متعمدَين، فهناك من يصرّ على تكريسها من زاوية واحدة تهتم ببناء الدولة الأردنية وحضورها، فيما لا يكترث آخرون بذلك، مدفوعين بمسوغات ثقافية لتأكيد أن تلك الفترة لا تستهوي أحداً في المنطقة العربية، وهو ما ثبت عكسه بالنظر إلى حجم المشاهدة التي حظي بها "سلطانة".

كل إبداع مرهون بصاحبه، لذلك كان لغالب أن يكتب سيرة روائية بحجم "سلطانة"، توثق لفترة طفولته ويفاعته التي عاشها بين قريته الصغيرة "ماعين" ومدينتَي مادبا وعمّان، وتستثير ذاكرةً رصدت المكان بتفاصيله؛ إذ ينفخ فيها روحه الحقيقية، ويخلق شخصياته الأصيلة، تماماً كما هي "سلطانة" القروية التي تلعب بالتجارة والرجال، وتؤثر في السياسة والمجتمع.

هناك من توقع أكثر مما جرى تقديمه في المسلسل، نظراً لطبيعة المنتج الروائي الغني لهلسا، الذي رصد تحولات المجتمع وبروز الشرائح والطبقات الاجتماعية. فضلاً عن أن هذه "سلطانة" كُتبت في فترة متأخرة من حياة هلسا الذي قدم تحليلاً ماركسياً يتقدم على نماذج ماركسية عربية أخرى، لاختلاف مرجعياته، واطّلاعه على الثقافة الأوروبية الغربية وآدابها.

فكّك غالب مجتمعه وجسّد بجرأة وعمق تلك الرابطة التي جمعت بين البدو والفلاحين وعلاقتهم بالحكم إبان تأسيس الإمارة، والهجرات المتعاقبة إلى عمّان منذ بدايات القرن العشرين، بخاصة من الشام ونابلس، وهو ما حوّل المدينة إلى حاضرة تجارية. وتستعرض الدراما أحوال السوق، وأوضاع تجار الحبوب والألبسة والعطور، دون أن تغفل تجارة الحشيش والدعارة. كل ذلك بموازاة ظهور الحركات السياسية، وفي مقدمتها الشيوعية وحضورها المتصاعد في أوساط الشباب، وتأثير الأوضاع بفلسطين على الساحة المحلية، إذ شارك أردنيون في قتال العصابات اليهودية، وفي الجدل الدائر قبل النكبة وبعدها، ما أسهم بدوره في تشكّل النخبة السياسية.

هذه الأفكار وغيرها قدّمها هلسا في نسيج روائي متماسك وأخّاذ، أسند دور البطولة فيه إلى عدد كبير من النساء الفاعلات (دأبه في معظم رواياته). وتتميز الرواية بجرأة عالية في تفكيك العلاقات بين المرأة والرجل، وهو حال "سلطانة"، ومن قبلها أمها "سلمى"، ومن بعدها ابنتها "أميرة". إضافة إلى متابعتها الدقيقة للخرافات والحكايات الغيبية الباعثة على الإثارة والتشويق.

ليس بعيداً عن الرواية، أطل علينا صنّاع المسلسل بما اجتهدوه، دالّين على الأثر من دون أن يلمسوه، مقتربين من الرواية ومبتعدين، مستلَبين للسيناريو الذي قيّد العمل، وذلك بدلاً من أن ينفتح المخرج وأبطاله على الرواية محاولين تقديم إبداع موازٍ، لا مجرد إسناد السيناريو لشخصيات بدت مثيرة، لكنها احتاجت لعمق أكبر وغنى أكثر.

الفنانة السورية "قمر خلف" نقلت شخصية "سلطانة" بحساسية عالية وأداء مرهف، وهو ما يُحسب أيضاً لزهير النوباني في دور "عودة" الذي يشارك سلطانة في تجارتها معتمداً على شطارته وفهلوته، ولمحمد الإبراهيمي بدور التاجر الذي يهيم بسلطانة، فتُغير شخصيتَه باعثةً الحيرة والقلق فيه ودافعةً إياه إلى العبث. يقدم العمل أيضاً فنانون موهوبون، مثل كندة علوش، وخالد الغويري، وأشرف طلفاح.

مع ذلك، فإن الرؤية الإخراجية للعمل وتسييرها لأحداث المسلسل، بدت غير مترابطة ومفككة في أحيان عدة، وجاء الحوار إنشائياً في غالبه منبتّاً عن روح الرواية، أو قاصراً عن الوصول إلى عمق الشخصيات التي جسّدتها الرواية. وهو ما يثير الشفقة، بخاصة إذا ما انزاح أداء بعض الممثلين إلى تقليدية باهتة، تذكّر بأعمال درامية أردنية في ثمانينيات القرن الفائت.

بدلاً من تجسيد الأجواء التي ظهرت فيها الحركات السياسية الأردنية والتي تميزت بسخونة النقاشات وحماسة الشباب المتحزبين، جاءت الحوارات في المسلسل جامدة وباهتة، وظهرت الحركة الشيوعية بصورة فقيرة، رغم أن الشيوعيين كانوا حينئذ يريدون تغيير العالم.

العمل الدرامي الذي أنتجه المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، افتقر للجرأة التي اشتمل عليها النص الروائي في تناولهِ قصصَ الحب والعلاقات الجنسية، ولم ترقَ الاجتهادات الفنية عبر الإيحاء والتأثير إلى جمالية ما تصمنته الرواية في هذا السياق، رغم أن المسلسل تضمن أحياناً مساحات جريئة في الحوار وفي بعض المشاهد، وهو ما كان غابَ عن الدراما الأردنية طوال العقود الماضية.

رغم ذلك كله، يشكل "سلطانة" تحدّياً كبيراً كعمل درامي، وهو يكشف عن اختراق على أكثر من صعيد، منها: إعادة الاعتبار للدراما الأردنية التي تجسد البيئة المحلية بعد انقطاع سبقه كثير من الأعمال الضعيفة، والتغيير الذي جرى لمفهوم هذه الدراما بالنظر إلى جرأة الطرح وغنى الشخصيات والأحداث، وإن لم يرقَ "سلطانة" إلى ما هو مأمول منه.

“سلطانة”: غالب هلسا يحضر بعد عقدين على رحيله
 
18-Sep-2008
 
العدد 44