العدد 44 - أردني | ||||||||||||||
محمد شما في الوقت الذي يبحث فيه الشباب الأردني عن عمل بين جموع المباني الضخمة، فإن شباناً يعيشون بمدينة الزرقاء المجاورة لعمّان، يبحثون عن طريق آخر للكسب. هؤلاء الشبان يبحثون عن قُوْتهم بين أكياس القمامة السوداء. لا روائح كريهة تثنيهم عن عملهم، ولا ظروفاً صعبة تحول دون وقوفهم أمام عمل دخل حديثاً لقاموسهم في المدينة الأشدّ فقراً، والأكثر كثافة سكانية من بين المدن الأردنية. خمسة عشر شاباً عمرُ الواحد منهم لا يتجاوز 25 عاماً، يجمعهم الفقر والتشتت، عنوانهم الحالي مكب نفايات الزرقاء الواقع جنوبي شرق المدينة. «كثير من الشبان عملوا في المكب، وأزعمهم وأكثرهم صموداً لم يستمر سوى شهر واحد»، يقول علي (18 عاماً)، مضيفاً: «كل عامل في المكب جمل محامل». يقع المكب على أرض مجاورة لمدينة الزرقاء تقدر مساحتها بـ100 دونم ، في منطقة تعرف بـ«حي المصانع» قرب جسر الكلية، حيث تعمل البلدية على إنشاء محطة تحويلية، خلال سنة، يكون العمل فيها آلياً، في توجّه لإغلاق المكب القائم بين الزرقاء وعمّان، بمبلغ قدّره القائمون على المشروع بربع مليون دينار. يضاف له ربع مليون دينار، كلفة آليات وشاحنات، وربع مليون أخرى كلفة تزفيت الطريق الواصل إلى المكب، لتكون كلفة المشروع مليون دينار أردني. أرض المكب هدية مقدمة من الجيش لبلدية الزرقاء، «لأن المحطة القديمة تشكل مكرهة صحية كبيرة في المنطقة، والمحطة الجديدة هدفها تلبية الحاجة المتزايدة لضبط مخلفات الاستعمال اليومي»، يقول مدير العلاقات العامة والإعلام في بلدية الزرقاء، صادق الحاج. يوسف كتانة، مدير العطاءات في بلدية الزرقاء، يوضح أن الزرقاء تنتج 300-400 طن نفايات يومياً في الشتاء، وما يزيد على 500 طن يومياً في الصيف. «كانت النفايات ترمى في المكب الواقع ما بين الزرقاء وعمّان، محدثةً مكرهة صحية كبيرة، فضج الناس بالشكوى، ثم إن النفايات كانت تنقل مخلوطةً للمكب، أما الآن فإن هذه المحطة تسمح بفرز النفايات ضمن إمكانيات بسيطة لتنقل إلى مكب الغباوي». أحمد الزواهرة، مدير المحطة التحويلية، يقول إن الشباب يعملون في النبش ضمن اتفاق مسبق مع المتعهد،. «ما نستطيع فعله، أن ننصحهم بأخذ الحيطة والحذر، من الأدوات الطبية، المتناثرة هنا وهناك. بعضهم يتناول أغذية فاسدة داخل أكياس، ما يعرضهم للمرض والتلوث». «إذا ما تعرض أحدنا لأذى، يقوم رفاقه بنقله إلى مستوصف قريب لمعالجته، ثم يعود إلى عمله كالمعتاد».. يقول محمد، نافياً أن يكون أحدهم قد تعرض لحادث ما في السابق. «لا نستطيع أن نكون أوصياء عليهم»، يقول الزواهرة وهو يستمع للحوار الدائر بين هؤلاء الشبان و«السّجل»: «ننصحهم دوماً بتوخي الحذر». هذه «المهنة» تسمى «نبش النفايات»، يدير العمل فيها متعهد يشتري ما يرى أن له قيمة، ليبيعه عبر سماسرة وتجار. بعضهم يجني أرباحاً كبيرة، فيما يقبض الشبان أجورهم، يومياً، أو في آخر الشهر. «أي شيء يطلع معنا نلمه: بلاستيك، ألمنيوم، نحاس. نجمع المواد ونبيعها، من خلال المتعهد الذي يتولى الأمر»، يقول علي الذي يأخذ يومياً أجرة تصل إلى 8 دنانير، لقاء عمله الذي يبدأ من السادسة صباحاً حتى الرابعة عصراً. أجرة علي غير ثابتة، فهي تعتمد على ما يجده يومياً بين أكوام النفايات. يعمل أحمد، 20 عاماً، في المكب منذ أربع سنوات، ولم يتعرض لأي تلوث أو إصابة عمل، رغم الأدوات الطبية المتناثرة من حوله والتي قد تحمل عدوى. يقول بصلابة: «هذه رزقتنا اليومية». نبش النفايات، ليست مهنة عادية أو مقتصرة على الشبان الخمسة عشر، إذ أصبحت ساحة خصبة تستقطب رجالاً يتاجرون بأكوام النفايات، حيث يتم طرح عطاء وينظَّم مزاد علني، الفائز به يجيّش شباناً متعطلين عن العمل لجمع النفايات وفرز الصلب منها ووضعها في أكياس. يلتزم المتعهد بضمان سنوي يصل إلى 31 ألف دينار يدفعها لإدارة المكب لتسمح له بالنبش، إضافة إلى رواتب للشبان. وتباع المواد الصلبة لتجار يقومون بدورهم ببيعها لآخرين يعيدون تدويرها مرة أخرى للاستعمال. «تطرح البلدية، وبشكل سنوي، عطاء فرز النفايات أمام المتعهدين والشركات الراغبة بقيمة مالية تتجاوز 300 ألف دينار، آخذين في الحسبان أن تكلفة نقل الطن الواحد من النفايات تساوي 365 قرشاً»، يقول الزواهرة. من أدوات العمل في هذه المهنة، «آلة نبش»، وهي عصا حديدية حادة الأطراف، تستخدم لنبش الأكياس وللبحث عن الخردوات. يعمل الشاب فترة طويلة نسبياً، ثم يأخذ قسطاً من الراحة، ويغتسل بماء خزان مياه، ويتناول شيئاً من الطعام، هو ما جمعته أمه أو ما عثر عليه من معلبات بين أكوام النفايات، ثم يجلس تحت مظلة خيش برتقالية اللون مهترئة - يبدو أنها كانت من بين النفايات- ليستأنف العمل بعد ذلك حتى ساعة متأخرة من الليل. هذا برنامج العمل اليومي. محمد عدوي، 24 عاماً، يبرر ساعات عمله الطويلة بالقول، بأنه ينام في مكان عمله: «هناك براكّية صغيرة أبيت فيها». نوم محمد في المكبّ هدفها «حراسة البضاعة، واختصار معاناة المواصلات». الطريق إلى المكب غير سهلة، فلا تصلها مواصلات النقل العام، وهي تعتمد على تنقلات ذاتية، ومحمد، القاطن في الرصيفة، يجد إقامته في المكب «مريحة». يقول: «نحتاج إلى ثلاثة عمال. إذا كنتم تعرفون شباناً متعطلين عن العمل ولا يقرفون من الزبالة فليأتوا». عبود، 19 عاما، عمل خبازاً لسنتين، لم يجد في الخبز قوتاً له. «أجني من النفايات دنانير ما كنت أحلم بها يوماً». لا يفصح عبود للآخرين عن طبيعة عمله، مكتفياً بالقول: «تاجر خردة». إذ يقطن مع عدد من الشبان العاملين معه في الرصيفة المتاخمة للزرقاء والبعيدة عن المكب «حوالي ساعة إلا ربع». يقول: «نتفق مع باص صغير يأتي بنا للمكب يومياً». محمد، يقول متباهيا إنه من أكثر الشباب جمعا للمال، «ألحق مبلغ 400 دينار شهرياً، وهذا المبلغ بحياتي لم أحلم بأن أحصل عليه، فالجامعيون في الرصيفة متعطلون عن العمل، وأقول لهم دوما تعالوا معي إلى المكب وارموا شهادتكم الجامعية». حكاية سعيد، 20 عاماً، تشبه، إلى حد كبير، حكايات شبان آخرين، لكنه يتميز بكونه المتعلم الوحيد بينهم. درس سعيد الفندقة في كلية مهنية بالزرقاء لسنة واحدة. «ماذا أفعل، لا عمل، لا مال، لا طعام، وأهلي يموتون جوعاً، والشهادة لم تقدم لي شيئاً، رغم أنني حاولت مراراً أن أعمل بها، لكني وجدت في النفايات مهنة أفضل»، يتحدث سعيد بسخرية. في السابق، كان المتعهد يدفع نحو 15 ألف دينار سنوياً قيمةَ تعهده للمكب. الآن تغيرت الحال. «النفايات مصدر مهم للرزق، وهو ما دلّ السماسرة والتجار علينا، فباتوا يزاحموننا على لقمة العيش ويهددون مستقبلاً بقطع رزقنا». يقول سعيد بنبرة السخرية نفسها: «الأغنياء يزاحموننا نحن الفقراء على النفايات». جمال عدوي، متعهد (35 عاماً)، يقول: «قبل أن تسألونا عن العمل في القمامة، سأقول لكم إن العمل فيها مربح للشبان، وأفضل لهم ألف مرة من العمل في مصنع أو أي مهنة أخرى، ففي تلك المهن لا يزيد راتب الشاب على 100 دينار. هنا في المكب قد يتجاوز الدخل 300 دينار، ولا يحتاج الواحد منهم إلى جهد بدني أو ذهني كبير». «ضمان المكبات أصبح مرتفعاً»، يشكو جمال، متابعاً: «لا يوجد بديل عن هذه المهنة». «السّجل» سألت عدوي عما سيفعله مع بقية المتعهدين بعد تشغيل المحطة التحويلية التي سُتحرَق النفايات فيها حال وصولها، فأجاب: «فور تشغيل المحقان ستنقطع رزقتنا، وسنكون متعطلين عن العمل.. هذا هو الحال». في المحطة التحويلية ستُضغط النفايات وترحَّل إلى مكب الغباوي الذي يبعد عن حدود بلدية الزرقاء مسافة تزيد على 40 كيلو متراً. يعلق أحد الشبان: «عندما تعمل المحطة آلياً، سنتشرد من جديد، ونعود إلى الشوارع، لا عمل لنا ولا لقمة طعام لدينا». |
|
|||||||||||||