العدد 44 - أردني | ||||||||||||||
محمد العرسان بدأت رحلة إسماعيل مع الغربة من محافظة كفر الشيخ، عندما عرض عليه أحد أقربائه شراء عقد عمل في الأردن بـ8 آلاف جنيه مصري (نحو ألف دينار أردني) للعمل حارساً لعمارة. لم يكن العرض مغرياً، لكن تفكير إسماعيل بمستقبله وسط بطالةٍ تستشري في مجتمع فقير، دفعته للقبول بما لا يتناسب مع الشهادة العليا في الزراعة التي يحملها. إسماعيل ابن الـ30 ربيعاً، يعيل عائلة من ثمانية أفراد من بينهم أربع فتيات، يعمل جاهداً -حسبما تقتضيه العادات والتقاليد في مصر- لتجهيزهن عند الزواج، بتوفير الأدوات الكهربائية والأثاث اللازم لكلٍّ منهن في حال طرقَ العريس بابها. الواقع الذي يعيشه إسماعيل، دفعه لاختيار «سكة السفر» التي قادته للأردن، بعد أن وفّر، بشقّ الأنفس، المبلغ الذي طلبه أحد السماسرة النشطين بين الأردن ومصر. لكنه، بعد وصوله، اكتشف أن الذي ينتظره هو «الأعمال الحرة»، وليس حراسة العمارة، فلم يكن أمامه بعد أن دفع المبلغ الكبير إلا أن ينخرط في العتالة وأعمال الإنشاءات، وخدمات أخرى، مقابل بضعة دنانير يساهم فرقُ صرف العملة في جعلها دخلاً «معقولاً» له. إسماعيل يعيش في مدينة إربد، في بيت مكوّن من غرفتين إضافة إلى مطبخ وحمّام، يشاطره السكن 7 عمال مصريين يعملون في مجالات مختلفة، يجد كلٌّ منهم في الغرفتين المتآكلة جدرانهما محطةً لـ«استراحة محارب» أمضى معظم ساعات نهاره في عمل شاقّ. أبو النصر، 38 عاماً، أحد زملاء «الشقاء»، بحسب تعبيره، يمتهن الأعمال الحرة في الأردن منذ أربعة أعوام، وقد حدث له ما حدث لإسماعيل مع «مافيا التصاريح». يقول أبو النصر الذي أتى من ريف القاهرة: «هذا استغلال للعمالة المصرية، ونحن لا نستطيع أن نشتكي لأحد»، ويضيف أن السفارة المصرية لا دور لها: «إنها لا تتابع أوضاع المصريين، ولا تحصّل حقوقهم. إذا أراد الواحد أن يشتكي يقولون له: روّح على بلدك». هذه عينة مما يتعرض له عمال مصريون كُثر تقوم عليهم قطاعات بأكملها، بخاصة قطاع الإنشاءات. يأتي العامل المصري إلى الأردن للعمل في مزرعة بحسب التصريح الذي يكلفه مبلغاً كبيراً، إلا أنه يكتشف أن العمل الذي ينتظره مختلف، أو ربما لا يجد عملاً أبداً، ما يدفعه للعمل بشكل مخالف في السوق، أقلّه لتسديد «ثمن» التصريح الذي حصل عليه في مصر بعد أن استدان من أكثر من جهة لـ«تدبيره». ناهيك عن تكلفة المعيشة المرتفعة بالأردن بعد موجة الغلاء التي اجتاحت البلد، وتركزت في المواد الغذائية الأساسية، كما يقول المصري غالب (33 عاماً) الذي يعمل «معلم شاورما» براتب 350 ديناراً. رُخص الأيدي العاملة، وإمكانية عملها لساعات طويلة في اليوم، هو ما يجعل العمال المصريين مَطْمعاً من جانب أصحاب العمل الأردنيين، بخاصة في قطاعَي الإنشاءات والزراعة. وهو ما يؤكده مدير عام اتحاد المزارعين محمود العوران، مضيفاً أن هذه العمالة «تتسم بقابلية المبيت داخل المزرعة، على عكس العمالة المحلية». أسامة، مصري يعمل في الإنشاءات، يتحدث بمرارة عن أوضاع العمال المصريين في هذا القطاع: «إننا نحصل على رواتب متدنية مقابل ساعات عمل طويلة وشاقه من دون أجر إضافي، فضلاً عن أننا غير مسجلين في الضمان الاجتماعي، ولا تأمين صحي لنا». حكاية أبو النصر السابقة لا تختلف عن حكاية زميله محمود، من كفر الشيخ، الذي يقول: «أنا في الأردن من شهر تقريباً. أريد أن أجمع ثمن التصريح وأغادر. كلّفني التصريح 8 آلاف جنيه، بينما كانت كلفته على الشخص الذي وفّر العقد لي 200 دينار أردني فقط». يبدي إسماعيل تذمراً من نظرة المجتمع له، ومن سوء المعاملة التي يتلقاها أحياناً: «بعضهم يعاملنا كعبيد، وينظر لنا كمواطنين درجة ثالثة، ناهيك عن ملاحقة رجال الأمن لنا. فرغم أوضاعنا القانونية السليمة، إلا أننا مصدر شكّ بالنسبة لهم». ويضيف: «إذا كانت الحكومة لا تريد بقاءنا، فلتُلغِ العقود والتصاريح ولتُعِدنا إلى بلدنا». هذا المستوى من المعاملة، دفع مئات من العمال المصريين للتجمهر أمام السفارة المصرية بعمّان في 10 أيار/مايو 2007، احتجاجاً على ما وصفوه «إساءة» بعض سلطات الأمن الأردنية معاملتهم، وقيامها بضرب بعضهم ضرباً مبرحاً تسبب في إحداث إصابات. إحصائيات وزارة العمل تقول إن نسبة العمال المصريين قياساً للعمالة الوافدة في الأردن 68 بالمئة من أصل زهاء 275 ألف عامل، يعمل منهم زهاء 65 ألفاً في الزراعة، ومثلهم في الصناعة، و43 ألفاً في الإنشاءات. أما العدد الأكبر من العمال المصريين فيعملون في قطاع الخدمات، ويتجاوز عددهم 100 ألف عامل. يروي عامل مصري كيف لقي أحد زملائه حتفه بعد أن قفز من فوق مبنى مرتفع ليتجنب وقوعه في أيدي «باص متابعة الوافدين» الذي توقف صدفة أمام مكان عمله. ساعاتٌ قليلة في سكنٍ لعمال مصريين، كفيلة بتقديم صورة عن حياتهم الاجتماعية. يُقسِّم العمال المهام البيتية بينهم بالتساوي، فمحمود مثلاً يتولى مهمة الطبخ، وإسماعيل يتحمل عبء الجلي، وغالب يشرف على برنامج الطعام، بوصفه «معلم شاورما». جمعتهم الغربة في بيت واحد، رغم اختلاف مناطقهم ومنابتهم ومشاربهم. هنا، في الأردن، تشكّل كل مجموعة منهم عائلة، هدفها واحد: «الحصول على حياة كريمة قدر المستطاع» بحسب تعبير محمود. شباب اختاروا العمل الشاقّ والغربة مفتقدين حنان الأسرة. فها هو أسامة يعبّر عن اشتياقه لتقبيل يد أمّه التي لم يرها من خمسة أعوام. أما غالب فيحنّ للصعيد، ويتمنى لو يعود ليقضي في أرجائه ساعة واحدة. هذه الحالة المعيشية المتردية للعمالة المصرية في الأردن تأتي في وقت يُتهم به الأردن -حسب تقارير دولية- بـ«الاتجار بالبشر»، وانتهاك حقوق العمال الوافدين في القطاعات المختلفة، بخاصة في المناطق الصناعية المؤهلة. بحسب تقرير أميركي صدر أخيراً، وتعكف وزارة العمل على إعداد رد رسمي عليه، فإن الأردن بات مهدداً بفرض عقوبات أميركية عليه، إذْ لم يعد يفصله عن «فئة المراقبة (3)» التي تتعرض الدولُ التي تدخلها لتلك العقوبات، سوى درجة واحدة. العمالة الوافدة تعاني من تمييز واضح بالتشريعات الأردنية. في هذا السياق رفض مجلس النواب أخيراً التعديل الذي تقدمت به الحكومة على المشروع المعدِّل لقانون العمل لسنة 1996. التعديل الذي رفضه المجلس يسمح للعمالة الوافدة بالانتساب إلى نقابات العمال. النائب عبد الرؤوف الروابدة قال خلال مناقشة مشروع القانون إن هذا الأمر «سابق لأوانه»، فيما رأى النائب عبد الكريم الدغمي أن السماح للعمالة الوافدة بالانضمام إلى نقابات العمال «أمر يتعارض مع السيادة». العمالة الوافدة تعاني أيضاً من عدم اهتمام منظمات حقوق الإنسان بها. رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان هاني الدحلة يلقي باللوم في هذا السياق، على «الإمكانيات المادية الضعيفة التي لا تتيح لمنظمات حقوق الإنسان إجراء دراسات ميدانية عن أوضاع العمال». |
|
|||||||||||||