العدد 44 - أردني | ||||||||||||||
موفق ملكاوي مشهد إعلامي محلي مختل، يعاني من اصطفافات على خلفيات عدة، والنتيجة أن الإعلام انحرف عن أهدافه في الرقابة وكشف الحقيقة أمام القارئ، ولم يعد يمارس عملية التنوير في المجتمع. الشهور الأخيرة كشفت وجها آخر للصحافة الأردنية، التي استطاعت إثبات مقدرتها على التخندق خلف واجهات كثيرة، جميعها ادعت احتكار الحقيقة، وعابت على الآخرين مواقفهم، مرجعة إياها إلى «تمترسات لا مهنية»، وأحيانا «لا أخلاقية». العلامة الكبرى التي أفرزتها «المعارك الأخيرة» جاءت تحت عناوين شتى، مثل: «التمترس الإقليمي»، و«الاصطفاف الجهوي أو الشخصي». عدد كبير من الكتاب هاجموا شخصيات عامة. آخرون اختاروا الاصطفاف إلى جانب تلك الشخصيات والدفاع عنها، غير أن ما يراه صحفيون آثروا عدم الانسياق وراء هذه النزعات، ولم يختلط لديهم الحابل بالنابل كالعادة، أن الهوية الوطنية: «الأردنية» أو «الفلسطينية» كانت عنوانا لكثير من «المشاجرات الصحافية» على صفحات الجرائد المحلية، وفي أكثر من موقع إلكتروني. فريق ثالث تواجد على الساحة أيضا، وهو الذي نأى بنفسه عن ذلك السباق، مبقيا على شيء من وظيفة الصحافة، وانتقد الأوضاع بعيدا عن الفرز الإقليمي والشخصي. كاتب صحفي في يومية محلية فضل عدم نشر اسمه، يرى أن الحاصل على الساحة ما هو إلا «اصطفاف إعلامي تبلور وفق فرز جغرافي لم تعهده الحياة السياسية والإعلامية في الأردن على هذا النحو السافر». يقول «الأمر برمته يشكل علامة خطر». ويدعو الإعلاميين المستقلين والمنتسبين إلى التيار التنويري الحقيقي لأن يواجهوه، وأن يمنعوا تغلغله إلى ما هو أبعد. الكاتب الصحافي عريب الرنتاوي يعتقد أن ثمة أسبابا حقيقية ووجيهة للخلاف، وأن هناك آراء مختلفة في التفكير السياسي والاجتماعي. المشكلة كما يراها هي في كيفية التعبير عن أوجه الخلاف تلك والتي «تأتي على شكل اصطفافات إقليمية، ومظاهر استزلام». ويلفت إلى أن هناك على الساحة ما بات يعرف بـ «علاقات زبائنية»، ترعرعت بين الجسم الصحفي ومراكز القوى في البلد، ما يفضي إلى وجود «مظاهر انحطاط في مستوى النقاش من خلال شخصنة الأمور». الرنتاوي يؤكد على الخلل في زاوية الرؤية التي ينطلق منها كثير من الكتاب في نقدهم لليومي، ما يجعله يتساءل: «هل الفساد يكون عظيما حين يصدر عن جهة، ولا يكون عظيما حين يصدر عن جهة ثانية؟» وهل يلزم التحقيق فيه عند جهة، بينما يسكت عنه عند جهة أخرى؟! «الخلل موجود»، يؤكد الرنتاوي، وهو ما يفرز المظاهر المرضية على الساحة، لتغدو ساحتنا الإعلامية عبارة عن قوى شد للاستقطابات والاستزلام، ولا تغني أي قضية. الكاتب الصحفي محمد أبو رمان يؤكد أن الاصطفافات الأخيرة، وارتفاع منسوب الحرية في ما يكتب في الصحف المحلية، ليست حرية إعلامية حقيقية، بل هي أقرب ما تكون إلى «التخندق الإعلامي، والاصطفاف مع مراكز القوى المتصارعة». ويرى أن ما رفع سقف الحرية، كان السجال حول شخصية وسياسات باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي، الذي يراه «شخصية جدلية أثارت وما زالت حراكا إعلاميا واستقطابات واضحة». وإذا كان موقع رئيس الديوان الملكي في السابق تم إعفاؤه من السجال الإعلامي، فإن وجود عوض الله في هذا الموقع، وتوسيع دور هذا الموقع وسلطاته إلى الحد الذي يرى فيه بعضهم أنه غدا «حكومة ظل»، فضلا عن التشديد على أن «عوض الله هو الذي يدير الملف الاقتصادي»، جعل من موقع رئيس الديوان مثار سجال طويل بين الإعلاميين، حتى وصل إلى الشارع الأردني. يرى أبو رمان أن هذه المعطيات دفعت بالتيار المعارض ونخبة من كتاب وإعلاميين إلى «توجيه النقد مباشرة إلى عوض الله، الأمر الذي أثار مسألة الحرية الإعلامية». اختلاف الموقع وحصانة صاحبه بين الأمس واليوم عائد، بحسب أبو رمان، إلى أن رئيس الديوان في الماضي كان بعيدا عن الاشتباك المباشر بالمعادلة السياسية والاقتصادية، ما جعل الموقع محصنا تقليديا، ولكن حين يكون منخرطا في هذه المعادلات، سيؤدي ذلك إلى وضعه تحت المجهر السياسي والإعلامي. يعترف أبو رمان بأن جزءا كبيرا مما يدور على الساحة الإعلامية المحلية هو في حقيقته «اصطفافات تحكمها اعتبارات عديدة، لا شأن للحقيقة والموضوعية بها». ويعيد جزءا كبيرا من المشكلة إلى «العلاقة غير السوية بين الإعلامي والسياسي». ففي الوقت الذي يرى فيه أهمية وجود هكذا علاقة، كمصدر مهم للمعلومات بالنسبة إلى الإعلامي الذي يرفع من سوية مقالاته، فإنه يؤكد أن هناك مشكلة متجذرة في هذه العلاقة: «العديد من الكتاب والصحفيين تحولوا إلى سعاة بريد»، وظيفتهم نقل رسائل باتجاه واحد: من السلطة إلى القاريء. الأصل في العلاقة، بحسبه، هو أن تحدد مسافة فاصلة وواضحة المعالم بين الطرفين، فالمسؤول يقدم المعلومات، ولكن على الإعلامي أن يقدم رأيه المستقل بعيدا عن تأثير السلطة. كاتب صحفي فضل عدم نشر اسمه يرى أن «المعركة يقودها مركز قوى واحد. ويقول يعتقد أن هناك توجها سياسيا واقتصاديا يقوده رئيس الديوان الملكي باسم عوض الله يؤثر على مستقبل الأردن السياسي». وبالتالي فإن هذا التيار يجهد في التحرك لمحاصرة هذا الخيار عبر تشكيل رأي عام لمواجهة هذه السياسات التي لم تكن وثيقة (ع.ع) المفترضة إلا واحدة من تجلياتها. لكن «الحقيقة حمالة أوجه»، واختلاف الآراء في ما هو دائر على الساحة لا يفسد «هجمة الحرية»، التي يرى فيها بعضهم «مهرجانا يجب المشاركة فيه: بالتغني بفضائل قوم، الندب والبكاء على الأطلال، أو بتفنيد المزاعم وتبيان الأسوأ من السيء». «تسديد فواتير»، يقول أحد الصحفيين المخضرمين. فهو ينظر إلى الفريقين المتصارعين على أنهم «أبواق للجهات المتصارعة»، وكتاباتهم لا تصدر عن قناعاتهم الشخصية». صحفيون آخرون يؤشرون على كتاب زوايا يومية أو أسبوعية معينين، ويقول إنها «كتابات مدفوعة الأجر»، وإن كتاباتهم ضد هذا الفريق أو ذاك لا دخل لها بالسجال الدائر، وإن تقاطعت معه، فهم «ليسوا ليبراليين ولا محافظين ولا إقليميين: ببساطة هم نفعيون حتى النخاع». مدير مكتب قناة «الجزيرة» في عمان الكاتب الصحفي ياسر أبو هلالة، يؤكد وجود هذه الفئة من الإعلاميين الذين «لا يتورعون عن الكتابة في أي أمر». ويؤكد أن الجدل الإعلامي الحالي دائر حول شخصية رئيس الديوان الملكي، وأنه أحد الذين كتبوا ضد هذه الشخصية. أبو هلالة لا يرى حرجا في الكتابة ضد سياسات الشخصيات العامة، ويشير إلى أنه يعرف عوض الله منذ العام 1995، وأنه كتب عنه منتقدا في العام 2004، واصفا إياه بأنه «أقوى من دبابة»، كما يشير إلى كتاباته ضد الأجهزة وحول قضايا الحريات العامة. ويؤكد أن دور الصحفي، في الأساس، دور نقدي، إذ ليس المطلوب من الكاتب ألا يكون صاحب رأي، ففي هذه الحالة إما أن يكون جبانا، أو جاهلا وعاجزا عن تكوين رأي خاص به. ويقول «المعلق يجب أن يكوّن رأيا بما يجري، سواء كان أمرا داخليا أو خارجيا». غير أنه لا ينكر وجود اصطفافات إعلامية، وكتاب لا هوية لكتاباتهم، «هناك كتاب مارسوا أسوأ أنواع الإقليمية بقصد اللعب على غرائز الناس»، واصفا ذلك بأنه «لعب غير مشروع، وجريمة لها مخاطرها على أمن المجتمع والبلد برمته». يرى أن هذا النفر من الكتاب نقلوا المعركة إلى الشارع: «أوهموا الناس بأن هناك من تتم مهاجمته على أساس أصوله، متناسين أن النقد يوجه إلى سياسات غير مقبولة». أبو هلالة يبين أن «الانقسام السياسي علامة صحة»، لكنه لا يرضى عن التقسيم الجغرافي الذي يصفه أنه «مدمر»، مرجعا ذلك إلى أن «العلاقة الأردنية الفلسطينية في بعدها الداخلي هشة، ولا تحتمل مثل هذه التقسيمات». لكن هل تتوقف الساحة الإعلامية عن نقد الشخصيات العامة وسياساتها؟ وهل تتوقف عن تأييد سياساتها خوفا من تهم «الاصطفاف والإقليمية والتبعية؟». أسئلة يطرحها صحفيون باتوا هيابين من دخول هذا المعترك خوفا من التهم الجاهزة التي أصبحت في متناول الجميع! وإلى حين التوصل فعليا إلى أن «ما من أحد يتم اغتياله على الهوية»، وأنه فعلا «ما من اصطفافات عمياء أو نفعية بحتة»، سوف تظل مهمة الصحافة معطلة، يندب عليها الجميع: الإقليميون والمصطفون والنفعيون، إضافة إلى أولئك الذين ما يزالون يؤمنون ببصيص الضوء الذي يأتي بعد العتمة الشديدة. |
|
|||||||||||||