العدد 44 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي في الخامسة والثمانين من العمر، لم يقطع محمود السمرة الرئيس الأسبق للجامعة الأردنية صلتَهُ بالموضع الأحبّ إلى قلبه وعقله وهو الجامعة. يستقبل بحكم عمله بين آونة وأخرى، في بيته الكائن خلف الجامعة، عدداً من طلبة الدكتوراه. لا يتمتع السمرة بنشاطه البدني السابق، لكن عقله باقٍ على توقده. الذاكرة ذات الأحمال الثقيلة، يراوغها ويروضها، ويستخرج منها المعلومات والوقائع الصحيحة. ما زال على درجة عالية من تنظيم شؤون عمله وحياته بما في ذلك ساعات النوم والاستيقاظ. وبسؤاله عن ميله للتكتم والتحفظ، فإنه يعترف لسائله بهذا الميل دون تحفظ! أما الأقربون منه فيصفونه بأنه صاحب روح مرحة وأنيسة، خلافاً لمظهره الأقرب إلى التجهم. عدا الجامعة التي ترك كل شيء من أجلها وكان من بُناتها في العام 1964، يتابع أبو الرائد أخبار الدنيا وأحوالها من التلفزيون في ساعات ما بعد الغروب، ويلحظ غروب آمال العرب بعدما "وصل المرض إلى الجذور وبتنا في حالة شلل، عاجزين حتى عن التفكير" يقول لمحدثه بنبرة تقريرية، وبأقل قدر من الانفعال بما ينسجم مع عقلانيته، التي لا تنزع إلى المبالغة وإن اتسمت بجرأة التشخيص. كان السمرة في كتاب سيرته الأخير: "إيقاع المدى" صاغ مانفسيتو حدد فيه مواضع القصور والفوات من قبيل: "كنا وما زلنا لا نستفيد من تجاربنا السابقة. لا ندري كيف تسير الأمور في العلاقات الدولية، ما يجعل تأثيرنا في العالم محدوداً. لا استراتيجية لدينا للعمل السياسي، وأعمالنا ردود فعل للحدث اليومي. الهوة التكنولوجية والثقافية والحضارية بيننا وبين العالم تتسع بدل أن تضيق، ولعلنا لا ندرك ذلك. بيننا وبين العقل جفوة وفرقة، وما زلنا نعيش في عالم من أوهام وخيالات. فهْمنا للتراث والمعاصرة فهمٌ بدائي. ننزع إلى التطرف الضارّ والتزمت المغلق غير المبرر. تقبُّلنا للرأي الآخر لم يخرج من قوقعته". لم يعمل محمود السمرة في السياسة، باستثناء عضويته لمدة عامين في أول لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير العام 1964 بعدما شارك في أول مجلس وطني عُقد في القدس آنذاك. لكن انشغاله بقضايا العرب وفلسطين لم ينقطع. أصدر كتابين هما "فلسطين الفكر والكلمة" (1974)، و"فلسطين أرضاً وشعباً وقضية" (1980). وانشغل خلال ذلك وما زال بالعلاقة بين العروبة والإسلام والغرب. وإذ يتوقف السمرة عند التحالف الأميركي الإسرائيلي، فإنه ينتمي لجيل رأى بأم عينيه التواطؤ الأول بين بريطانيا والحركة الصهيونية الذي مهد لقيام الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها. لا ينسى تلك الخطيئة ولا يتغاضى عنها، وهو الذي منذ وقت مبكر منذ نيله شهادة الدكتوراه من جامعة لندن، قبل نصف قرن بالتمام، تشرّب قيمَ العقلانية الغربية ولم يتراجع عنها. تمسّكه بهذه القيم لم يحجب عن وعيه وأنظاره تلك الخطيئة، وإدراكه التام لها لم يدفع به إلى التنكر لحضارة العصر، بدعوى أن الغرب كله ضدنا وعلينا. بهذا اكتسب محمود السمرة صفة رائد نهضوي يتبصر في تراث أمته ويتعلق بهويتها، ويجمع إلى ذلك انفتاحه على العالم والزمان، فقد انشغل على سبيل المثال في النصف الثاني من عقد الستينيات بتحقيق كتاب القاضي الجرجاني "الأديب الناقد"، وبمتابعة الجديد في الإبداع الغربي بإصداره كتابه الشهير "أدباء الجيل الغاضب"، بعد أن أصدر كتاب "أدباء معاصرون من الغرب"، وذلك كثمرة لعمله في مجلة "العربي" التي "أصدرناها العام 1958 على غير مثال" على حد تعبيره. تولى السمرة، وكان في الخامسة والثلاثين من العمر، موقع نائب رئيس تحرير المجلة، إلى جانب رئيس التحرير المصري أحمد زكي الذي كان في منتصف عقده السابع. عُرف السمرة بالباب الشهير في المجلة "كتاب الشهر". ظل يعرض فيه كتاباً من ثمرات الفكر الغربي كل شهر. وذلك حتى العام 1964 الذي غادر فيه "العربي"، وهو قرار استهوله أصدقاء له ورأوه ينم عن سذاجة.. فمن يترك امتيازات "العربي" والكويت، إلى جامعة ناشئة في بلد فقير. لكنه سارع للالتحاق بالجامعة الأردنية، وما زال مرتبطاً بها حتى يوم الناس هذا. وكان ترك رئاستها في العام 1992 بعدما طُلب منه الاستقالة لأسباب يتجنب السمرة ذكرها، لينتقل رئيساً لجامعة البنات، الخاصة وحديثة النشأة آنذاك. يذكر في كتابه "إيقاع المدى"، أنه لم يرتضِ بعدم الاختلاط بين الطلبة والطالبات، ولا راقه اسم الجامعة الوليدة، وقد كافح حتى تحول اسمها إلى "جامعة البترا" التي أذنت بالاختلاط، وانسحب منها مساهمون وقفوا ضد التقاء طالبي المعرفة. في حقبة الاستراحة التي يمضيها في البيت، والتي يصف فيها نفسه بأنه "متقاعد وغير متقاعد"، فإنه يأخذ على التعليم "انحدار مستواه ككل شيء جميل في حياتنا". يستغرب أن تنشأ أو تتحول جامعات خاصة إلى مؤسسات استثمارية، وبعضها حقق في عام واحد ما فاق رأسمالها. "لا أرباح للمساهمين في الجامعات المحترمة. المساهمون في هذه الحالة هم بمنزلة متبرعين. الأرباح تستثمر في تطوير الجامعة، لا في تسمين جيوب المساهمين". عمل السمرة وزيراً للثقافة في حكومتَي الشريف (الأمير) زيد بن شاكر وعبد السلام المجالي، في أوائل التسعينيات. لم يتغير شيء كثير على الوزارة، لكنه عمل على مضاعفة ميزانيتها التي بقيت بعد مضاعفتها ميزانيةً هزيلة، كما يقول في كتابه، ويُلحق ذلك بقوله: "تبقى وزارة الثقافة عند المسؤولين نافلة يمكن الاستغناء عنها دون أن يخسر الوطن شيئاً، وما أبعد هذا عن الدور الحضاري للثقافة الذي به يُقاس تقدم الأمم". بين الشخصيات التي تحظى بتقدير كبير في نفسه: طه حسين، الذي يرى أن له فضلاً في إطلاق وتعميم مبدأ: الحق والحرية في التفكير. وكان السمرة أصدر كتاباً عنه بعنوان "سارق النار طه حسين". بين غير العرب يبدي إعجاباً بالمناضل الإفريقي نيلسون مانديلاّ، الذي قرن الصمود والتضحية بالتحلي بروح التسامح ونبذ العنصرية، حتى لو أتت من ضحايا سابقين للتمييز. وتستوقفه شخصية الشاعرعرار، وكان قام بتحقيق ديوان مصطفى وهبي التل "عشيات وادي اليابس" في العام 1973. يُذكر أن لمحمود السمرة ديوانَ شعر مخطوطاً بعنوان "عزف على وتر مشدود" يرفض صاحبه نشره، بعد أن انقضت مرحلته، مرحلة التهاب العاطفة، ويعلل الامتناع عن النشر لكونه لا يطيق سماع القيل والقال. |
|
|||||||||||||