العدد 44 - أردني
 

حسين أبو رمّان

لم يشهد الأردن منذ أمد طويل صيفاً في مثل سخونة الفصل الذي يوشك على الانتهاء، ليس فقط بحرارته الاستثنائية، بل كذلك بالملفات الحساسة التي فتحت خلاله: ملف الفساد الذي طالت أصداؤه شخصيات متنفذة، ملف الاتجار بالبشر، ملف اللقاءات مع حركة حماس، قوانين مثيرة للجدل وافق عليها مجلس النواب،، وملفات أخرى "أقل أهمية"، لكنها أسهمت في رفع سخونة الصيف المنقضي إلى درجة غير مسبوقة.

إثارة ملفات مماثلة في بلدان أخرى يندرج في خانة الحيوية السياسية، فليس هناك بلد يخلو من فتح ملفات من هذا النوع. بالنسبة لنا في الأردن فإن تلك الملفات تشير إلى مأزق اجتماعي وسياسي دقيق يعيشه المواطن والبلاد على السواء.

في البلدان ذات الحيوية السياسية السليمة، فإن حل المشكلات يكمن في الطرق الديمقراطية، وفي خيار المكاشفة والشفافية التي تتيح للمواطن الاطلاع على تفاصيل أية ملفات غامضة. ما يحدث عندنا في الأردن لا صلة له بذلك. التفاصيل يجري كتمانها أو تأجيل الكشف عن بعض جوانبها، وقبل أن تُعرف وتذاع التفاصيل تبدأ على التو،اصطفافات تتخذ أشكالاً جهوية أو إقليمية أو عشائرية أو شخصية. يتحول الاصطفاف إلى خندقة ويشرع كل طرف ب"إطلاق نار" على الطرف المقابل، في غياب شبه تام للعقل واختفاء الروح النقدية ووجهة النظر القائمة على التحليل، وتجاوز أدوات التحليل الموضوعي التي تتحول مع أجواء الاستقطاب، إلى ملفات ساخنة شبيهة بتلك التي شهدها مجتمعنا في هذا الصيف.

لهذا المأزق عنوان، هو غياب مفهوم الدولة المعاصرة وأساليب الإدارة الحديثة عند بعض النخب، لصالح سلوكيات تعكس رؤى ومصالح تشكيلات اجتماعية وانتماءات أولية أو فرعية؛ قبلية وجهوية وإقليمية.

الدولة بمفهومها المعاصر قادرة على فتح أية ملفات إشكالية أو خلافية، ومعالجة القضايا التي تشتمل عليها، ووضع الأمور في نصابها بأساليب الإدارة الحديثة، التي تعني في أبسط معانيها، التوافق على هدف عام والعمل بوحي منه والاحتكام الى آليات قانونية مستقرة. السلطة الإدارية بهذا المعنى غير شخصية، فقد نشأت لتخدم أهداف ووظائف الدولة، والرسميون هم أدوات تحقيق تلك الأهداف. في البيروقراطية الحديثة، فإن المنصب هو المهم لا شاغل المنصب، والدولة أسمى من الجهة والإقليم والعشيرة.

مع انفتاح الملفات الصيفية، بدأت الاصطفافات وتمحورت في اتجاهين: اتجاه ذو طابع محافظ تقليدي، وآخر ذو طابع حداثي. انبرى متحمسون حسب وشائجهم ومصالحهم وتوزعوا بين الاتجاهين، ما عزّز مظاهر الخندقة وشخصنة الأمور، وأربك دور مؤسسات مرجعية في الدولة، مثل المجلس النيابي، فغاب عن الفعل تارة، واصطف أو انزلق إلى مواقف انتقائية تارة أخرى.

مع بداية عهد حكومة نادر الذهبي، تجدد الحديث بشكل متواتر من أطراف متعددة، عن كون الحكومة هي صاحبة الولاية العامة، ما يعني ضمناً ضبط أنشطة مراكز القوى في إطار النشاط العام للسلطة التنفيذية، ووضع حد لأية تدخلات محتملة في عمل الوزراء.

وجود مجلس نواب قوي يفعّل سلطات الدولة ويكرس التوازن ما بينها دون استئثار أو تغول، وهو ما يعزز مكانة الدولة وسيادة مفاهيم دولة القانون والمؤسسات. وقد نجح الأردن في اجتياز واحدة من أخطر المراحل في تاريخه، إثر انكشاف عجزه عن تسديد أقساط وفوائد المديونية الخارجية وانهيار قيمة العملة قبل عقدين من الزمن، ثم اندلاع حرب الخليج، حينما أتيح انتخاب مجلس نواب فاعل ذي طابع تمثيلي واسع، وحينما تجمعت لحكوماته فرص بسط ولايتها العامة على الشأن العام تحت مظلة الدستور.

لكن مسار الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي الذي بدأ مع عودة الحياة النيابية العام 1989، بدأ بالتراجع مع فرض نظام الصوت الواحد في انتخابات العام 1993، بقانون مؤقت. ودفع الأردن وما زال مذاك ثمن هذا التراجع في مكانة مجالسه النيابية.

بداية عهد الملك عبدالله الثاني كانت مناسبة لانطلاقة جديدة، تتناغم مع اندفاعة الملك الشاب ورؤيته الإصلاحية.

الحكومة الأولى التي كلّفها الملك، لم تواكب التطلعات الملكية، بل كانت أقرب إلى التحفظ على الأفكار الجديدة. وقد نقل وزير سابق في حكومة عبد الرؤوف الروابدة وعضو مجلس اقتصادي فيها إن "تلك الحكومة كانت محافظة وغير قادرة على إنتاج أفكار حداثية تتناسب مع توجهات الملك عبد الله الثاني". من الواضح أن هذه كانت فرصة التيار الثاني، الموصوف بتيار الحداثة، للإعلان عن نفسه.

من هذه النافذة، دخل تيار الحداثة ومن يطلق عليهم اسم الليبراليين الجدد، وتقدموا بأفكارهم وكان باسم عوض الله الشخصية الأكثر تمثيلاً لهم. فهو أعطى المناصب التي تولاها قوة إضافية تفوق المألوف: في وزارتي المالية والتخطيط وأخيراً في الديوان الملكي. شخصية سياسية عرف صاحبها عوض الله جيداً، تصفه بأنه "يتمتع بقدرة هائلة على إنتاج الأفكار"، مما يروق لصاحب القرار. تضيف هذه الشخصية "عوض الله يستمد قوته من قربه من ملك البلاد، وهو لا يعبر عن موقفه الشخصي بل عن موقف الملك".

لكن عوض الله ومن حوله، يعرفون أنه لا مكان لهم قرب قمة الهرم السياسي على المدى البعيد، إلا بتحقيق تغييرات هيكلية وسريعة في بنيان الدولة والمجتمع.

الحقيقة الماثلة للعيان أن حداثة الليبراليين الجدد هي حتى الآن وفي واقع الأمر، قشرية لا تصل الجوهر. ففي مقابل عجز الفكر التقليدي عن تقديم حلول تواكب متطلبات التطور في زمن العولمة، أثبت دعاة الحداثة عجزهم عن حل القضايا الأساسية التي تواجه المجتمع وفي مقدمتها البطالة والفقر، رغم الخطط الطموحة التي وضعوها والإمكانيات الكبيرة التي وضعت تحت تصرفهم، بل زادت المشاكل تفاقماً. كشفت دراسة لمركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية نشرت مؤخراً، أن القطاع العام لم يعد الأساس الذي تقوم عليه الدولة، وأشارت إلى تآكل الطبقة الوسطى، ما يشير إلى عجز الاقتصاد الوطني عن ضمان حياة كريمة للمواطن الأردني.

ولئن كان صحيحاً أن هناك ارتفاعاً في أسعار النفط في الأسواق العالمية(بدأ في الانحسار منذ نحو ثلاثة أسابيع) وارتفاعاً في أسعار السلع الغذائية عالمياً (ظل صامداً ومتزايداً رغم انخفاض أسعار النفط)، فإن مجموعة المشاريع التي نفذت بدفع من ليبراليين جدد، كالمشاريع العقارية الكبيرة لم تساهم في حل المشكلة، بهذا المنظور لا يكون الليبراليون الجدد، ليبراليين إلا في الاسم.

النتيجة أن الشعب يقع في مرمى نيران الفريقين المتحاربين، فقد أضير من صراع الطرفين، ولن يعود عليه فوز أي من الطرفين على الآخر بمردود جيد.

الحل للخروج من المأزق صعب بكل تأكيد، وسيكون أصعب كلما تأخر أكثر، ويكمن أولاً في إصلاح سياسي يفضي لقانون انتخاب يكفل وجود مجلس نواب قوي،يصعد إليه نواب ببرامجهم لا بأسماء عائلاتهم أو نفوذهم المالي.

في الإطار نفسه يتعين التمسك بولاية الحكومة على الشأن العام بغير تدخلات من أي طرف، وتشكيل الحكومات على أسس سياسية واضحة، وإصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته، ومكافحة الفساد المالي والإداري، ومقاومة مظاهر الاستقواء على هيبة الدولة، وكل ذلك يخدم ارساء دولة القانون والمؤسسات. عندها ينبغي أن ينصرف اهتمام الحكومات نحو إصلاح التعليم العام والجامعي، فنحن جديرون بنظام تعليمي متماسك وكفءُ، والارتقاء بالخدمات الأساسية. أما الإصلاح السياسي فيبقى أقصر الطرق نحو الإصلاح الاقتصادي الذي يستجيب لحاجات البلد والناس.

سجال خارج المؤسسات الدستورية: الشعب في مرمى نيران محافظين و“حداثيين”
 
18-Sep-2008
 
العدد 44