العدد 43 - ثقافي | ||||||||||||||
نادر رنتيسي فصل جديد من قضايا المطبوعات والنشر طرأ على الساحة الثقافية أخيراً، بقرار منع إدخال وتوزيع كتاب «انثيال الذاكرة – هذا ما حصل» للكاتب فتحي البس، إلى حين استصدار قرار مستعجل من المحكمة بذلك. مدير المطبوعات والنشر، نبيل المومني، اتخذ قرار المنع، كما جاء في خطابه الموجه لدار الشروق أخيراً، بوصفها ناشر الكتاب، لما عدّه «مخالفة» الكتاب لنصّ المواد (5، 7، 38) من أحكام القانون. تنص المادة 5 من القانون على أن «على المطبوعة تحري الحقيقة والالتزام بالدقة والحيدة والموضوعية في عرض المادة الصحفية، والامتناع عن نشر ما يتعارض مع مبادئ الحرية والمسؤولية الوطنية وحقوق الإنسان وقيم الأمة العربية الإسلامية». أما المادة 7 فتنص على أن «آداب مهنة الصحافة وأخلاقياتها ملزمة للصحفي، وتشمل: احترام الحريات العامة للآخرين وحفظ حقوقهم وعدم المس بحرمة حياتهم الخاصة؛ اعتبار حرية الفكر والرأي والتعبير والاطلاع حقاً للصحافة والمواطن على السواء؛ التوازن والموضوعية والنزاهة في عرض المادة الصحفية؛ الامتناع عن نشر كل ما من شأنه التحريض على العنف أو الدعوة إلى إثارة الفرقة بين المواطنين بأي شكل من الأشكال؛ الامتناع عن جلب الإعلانات أو الحصول عليها؛ الالتزام بأحكام ومبادئ الشرف». وتنص المادة 38 على حظر نشر ما يشتمل على "تحقير أو قدح أو ذم إحدى الديانات المكفولة حريتها بالدستور أو الإساءة إليها"، أو "التعرض أو الإساءة لأرباب الشرائع من الأنبياء بالرسم أو الصورة أو بالرمز أو بأي وسيلة أخرى"، أو "ما يشكل إهانة الشعور أو المعتقد الديني أو إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية"، أو "ما يسيء لكرامة الأفراد وحرياتهم الشخصية، أو ما تضمن معلومات أو إشاعات كاذبة بحقهم". البس، صاحب "انثيال الذاكرة"، يرى أن تفاصيل تلك المواد لا تنطبق تماماً، من حيث التوصيف، على كتابه "الأدبي"، خاصّاً بالذكر المادتين (5) و (7) من القانون، اللتين تتعلقان بالمطبوعات الصحفية، لا بالمنتج الأدبي. يؤكد البس أن دائرة المطبوعات والنشر اتخذت قراراها هذا استناداً إلى "معايير حمّالة أوجه"، معتبراً أن التطبيق "الحرفي" لتلك المواد في ما يتعلق بما تستورده دارُ النشر، التي يملكها ويديرها، من كتب، يعني مكوث "الدار" و"الدائرة" جلّ وقتهما في أروقة المحاكم. الكتاب قيد المنع، سيرة يجتمع فيها الخاص والعام، وتتميز بالتفاصيل الغزيرة بالمتع والمعاناة. تبدأ بمخيمات الضفتين، الشرقية والغربية، ترصد تأسيسها وشقاء سكانها، وإصرارهم على المواجهة من خلال تفاصيل الحياة اليومية. ويروي الكاتب الذي سبق له أن ترأس اتحاد الناشرين العرب لدورات عدة، مفردات العمل السياسي الفلسطيني منذ بواكيره، حتى ذروته في سبعينيات القرن الماضي في بيروت، معايناً الفترات اللاحقة التي شهدت الانعطاف السياسي في الفكر الفلسطيني باتجاه التسوية. الكاتب يبدو شاهداً على ذاكرة جيل عانى وعاند وتمرد، خاض مسيرة الحرب والحب، انتصر أحياناً وصدم أحياناً كثيرة، ويجد الكثير من الناس أنفسهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وقلقهم في صور الكتاب المنثالة بلغة مفعمة بالحنين واللوعة. هذا المحتوى لكتاب "انثيال الذاكرة" واجه تهماً من بينها "الإساءة إلى كرامة الأفراد وحرياتهم الشخصية"، و"إثارة النعرات الطائفية والعنصرية، والفرقة بين المواطنين"، وفقاً للمادتين 7 و31 من القانون. البس رأى أن كل تلك الاتهامات، وغيرها، "لا تنطبق أبداً على محتوى الكتاب"، مشيراً إلى ما ورد في حيثيات قرار المنع حول "التعرض للأديان"، في الوقت الذي تمت فيه إجازة الكتاب وتوزيعه في المملكة العربية السعودية مثلاً. بكثير من التفاصيل يفند البس تهمة الإساءة لكرامة الأفراد، والمسّ بحرياتهم الشخصية، وتضمين إشاعات كاذبة بحقهم، مؤكداً أن "الدقة تتوفر في كل كلمة واردة في الكتاب". ويفسر عبارة "هذا ما حصل" في عنوان الكتاب، أنها تعني رواية مشاهداته ومشاركته في الحياة العامة، ولا تتعرض للحياة الخاصة لأي إنسان، مشدداً على أنه في حال كان هنالك تعرض لحياة أحد، فهو صاحب الحق في المقاضاة، وليس دائرة المطبوعات والنشر. يشير البس إلى أن أجزاء من الكتاب نُشرت في الصحف، وأن كثيرين اطلعوا على محتواه قبل النشر، ولم يعترض أحد على ما جاء فيه. الروائي والناشر إلياس فركوح يؤكد أن الأجزاء الكبيرة التي قرأها من الكتاب قبل النشر "لا تستدعي المصادرة أو المنع". "انثيال الذاكرة" أمضى وقتاً طويلاً في أدراج دائرة المطبوعات والنشر، بحسب البس. قبل ذلك كانت المكتبة الوطنية رفضت إعطاءه رقم إيداع، ما اعتبره الكاتب "مؤشراً استباقياً" لمنع الكتاب، رغم عدم اضطلاع المكتبة الوطنية بشؤون الرقابة، وعدم تقديمها أي تفسير لرفض إعطاء رقم الإيداع، بحسب البس. يظهر "الطابع السياسي" سياقاً للمنع والمحاكمة، ويأتي في ظل ما يرى البس أنه "تراجع كبير، وعودة إلى حقبة الأحكام العرفية"، مستدركاً أن هذا يحدث في ظل قانون مطبوعات "أفضل من غيره"، محيلاً الخلل إلى "تطبيق الرقيب واجتهاداته". شاع الحديث منذ عامين، عن انتهاء الدور الرقابي لدائرة المطبوعات والنشر. بيد أن فركوح يشير إلى أن الرقابة تحولت من رقابة "مسبقة" إلى رقابة "لاحقة". ويذهب إلى أن الرقابة الأخيرة لها أضرارها الكبيرة على الكاتب: مادياً ومعنوياً، إضافة إلى هدرها لوقت الكاتب والناشر معاً، معتبراً إياها رقابة "مموهة" لم تتغير في "جوهرها". "ے" استطلعت آراء مثقفين أردنيين رأوا في الرقابة، مسبقة كانت أم لاحقة، أمراً مرفوضاً، وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، مستغربين الإصرار على التلويح بها في عصر تسوده ثورة المعلومات. رئيس رابطة الكتاب الأردنيين سعود قبيلات يرى أن "ذهنية" منع الكتب ومصادرتها باتت أمراً مستغرباً وكاريكاتورياً في ظل تطور تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. هذا ما يراه أيضاً رئيس الرابطة السابق أحمد ماضي، مؤكداً أن الرقابة في العصر الحالي، سواء أكانت قبل صدور الكتاب أو بعده "عبث في عبث". يضيف ماضي أن العالم اليوم بات " قرية صغيرة" تسوده ثورة المعلومات والاتصالات، الأمر الذي مكّن القارئ من "نشر وتداول المعلومات والمواد بمختلف أنواعها بعيداً عن أي نوع من الوصاية". الناقد خالد عبد الرؤوف الجبر قال إن الرقابة مرفوضة بكل أشكالها، معتبراً أن الحرية "شرط الحديث عن التنمية والخروج من دائرة التخلف"، مضيفاً أنه في حال ربط ذلك بالفكر والحضارة والتقدم فإن الرقابة تصبح "معولاً يهدم كل ما يحاول الإنسان بناءه". ويزيد أن الرقابة، بذلك المعنى، تصبح كالألغام التي لا يمكن المرور منها، لتوقع انفجارها بين لحظة وأخرى. تستهدف الرقابة، حسب قبيلات، الكتاب الورقي الأردني، ما يرى فيه أمراً ضاراً بالحركة الثقافية والعلمية، داعياً إلى مواجهة الأفكار بالأفكار، وليس بقرارات المنع والمصادرة، لقناعته أن الفكر يتغلب في النهاية على جميع أنواع الوصاية. ويتوقف فركوح عند إجراءات "الرقابة الجديدة" حالَ "التحفظ" على كتابٍ ما، بإحالته إلى المحكمة، أو إعادته إلى بلد المنشأ، أو شطب ما تمت الإشارة إليه. تستند تلك الإجراءات إلى تأويل الرقيب وتفسيره، الذي يرى فركوح أنه بات يمثل "ضمير المجتمع أخلاقياً وسياسياً ودينياً"، رغم أن ثقافته مهما اتسعت تبقى "محدودة"، ولا تخوله امتلاك القرار النهائي في منع الكتاب أو إجازته، بحسب فركوح. هنا، يرى ماضي ضرورة "إلغاء دائرة المطبوعات والنشر"، وإشاعة أجواء الحوار والخلاف الخلاق بدلاً من الرقابة. ويتفق الجبر على أن الرأي يجب أن يكون حراً ويجد سبيلاً للنشر، ومن ثم للنقاش أو الثورة عليه دون إلغائه أو الحجر عليه. قبيلات من جهته، يشدد على عبثية الرقابة على المعلومات، لأن المعلومات تجد دائماً طريقها للنشر، معتبراً أن منعها يزيد من انتشارها، وإنْ كان ذلك عن طريق الإشاعة، وبذلك "يكون الرقيب أشاع أجواء لا تخدم الثقافة والعلم". ويرى قبيلات أن "تعدد الرقابات" يؤكد أننا نعيش في "عصر انحطاط"، ويضيف: "الأمم التي تعيش حالة كهذه يكون لدى دولها شعور أن الكلمة قد تطيح بها". |
|
|||||||||||||