العدد 43 - اقليمي
 

معن البياري

عندما ذاع في 29 تموز/ يوليو الماضي، في دبي (وفيها تكتب السطور التالية)، أن مغنية لبنانية اسمها سوزان تميم (31 عاماً) عثر عليها قتيلة في شقتها في الإمارة، لم يخطر في بال أحد أن خيوط الجريمة يمكن أن تذهب إلى ملف مختلف عن المتوقع في مثل وقائع كهذه، ضحاياها شابات جميلات يتمتعن ببعض الشهرة والعلاقات مع أوساط ثرية. لم يأت إلى بال أحد أن وراء الأكمة ما وراءها في الحادثة، وما يسوق إلى القضية إياها من تشابك المال والسلطة والنفوذ في مصر، البلد الذي ينتعش النقاش فيه في هذا الشأن منذ سنوات. ولم يكن في وسع مخيلة أحد من الإعلاميين في دبي ممن تابعوا مجريات التحقيق أن تروح إلى ارتدادات في مصر ستحدثها الجريمة الشنيعة.

كانت القناعة أن أجهزة الأمن في دبي ستتمكن من جلاء أي غموض في الواقعة، بعد أن تبدّى أن المقصود في الجريمة قتل المغنية الشابة، وليس أي شيء آخر كالسرقة أو الاعتداء الجنسي. ومصدر توطّن هذه القناعة أن جرائم شديدة الغموض وقعت في الإمارة تمكنت السلطات المختصة من تفكيك تفاصيلها والقبض على مرتكبيها وبحرفية مهنية عالية. ومن ذلك أن سطوا بالرشاشات على طريقة المافيا الروسية، نفذته قبل أكثر من عام عصابة على محل بيع للذهب والألماس في مركز تجاري، وتمكن أفرادها من الهروب إلى الخارج. وبعد نحو ثلاثة أسابيع، كشفت شرطة دبي كل التفاصيل عنهم أمام الرأي العام..

المغدورة لا تحظى بشهرة وفيرة، وليس لها حضور ملحوظ بين المغنيات اللبنانيات اللواتي لا يغبن في فيديو كليبات منوّعة عن شاشات التلفازات. لها ألبومان، وقيل واحد فقط، وأغنية عن رفيق الحريري، ظهرت أول مرة في برنامج هواة العام 1996، وبعد مشاركات في بضع حفلات وسهرات غنائية، توقفت لأكثر من عامين. وأفادت مواقع الكترونية نشطت في توثيق سيرتها القصيرة وملاحقة التفاصيل عن عائلتها،أن مشكلات أسرية كانت سبب ضعف حضورها، في طلاق أول وانفصال في زواج ثان، وأن والدها اتهم في قضية مخدرات في مصر. وأبانت صور لها طيّرتها وكالات الأنباء غداة اكتشاف قتلها، وأخرى لملمتها مواقع إخبارية، أبانت عن جمال باهر تمتعت به تميم، بشعرها المرسل وجسدها المقدود. وكانت الأسئلة تاليا عما إذا كان حقّا في وسع شابة ذات تجربة غنائية متواضعة أن تملك شقة قيمتها أكثر من مليون دولار في حي المارينا الراقي في دبي، وعما إذا كان في مقدورها أن تقيم شهورا في شقة فخمة في لندن التي قدمت منها إلى دبي قبل عشرة أيام من ذبحها.

صدقت التوقعات بشأن شرطة دبي، فبعد 12 يوما فقط من حدوث الجريمة، كشف نائب قائد شرطة دبي اللواء خميس مطر في مؤتمر صحفي عن معلومات أولية، كان الأبرز فيها أن القاتل مأجور وعربي تم القبض عليه في بلاده، تمكن من دخول شقة المغنية بعد خداعها، وقتلها طعنا بضربات سكين، وتم الاستدلال عليه من ملابس كان يرتديها ثم رماها في مكب نفايات، ومن كاميرات مراقبة في العمارة. وإذ صمت المسؤول الأمني الإماراتي عن أي أسماء، بادرت صحف قاهرية مستقلة إلى نشر اتهامات صريحة لضابط أمن مصري سابق كلفه بقتل تميم رجل أعمال نافذ ومليونير وعضو في مجلس الشورى يرأس فيه اللجنة الاقتصادية وقيادي في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم،وله موقع لافت في لجنة السياسات في الحزب التي يرأسها جمال مبارك، وشقيقه نائب في مجلس الشعب، وتردد أنه على صلة قرابة مع سوزان مبارك زوجة الرئيس.

لم يفلح قرار النائب العام في مصر منع النشر عن القضية في تخفيف دويّ الواقعة. وبعد أيام على شيوع اسم صاحب الاستثمارات المهولة في قطاع الإسكان والمقاولات والفنادق هشام طلعت مصطفى متهماً بتكليف ضابط أمن الدولة السابق حسام منير السكري بقتل سوزان تميم مقابل مليوني دولار، أعلن النائب العام في مصر اتهام المذكوريْن صراحة بالجريمة، وإحالتهما إلى محكمة الجنايات، فتم إيداعهما السجن بعد الإسراع في سحب الحصانة عن مصطفى، باعتباره عضوا في مجلس الشورى.

لم يبالغ كثيرا من كتب أن الجمهور المصري يتابع الحكاية بتشويق، بشكل يفوق متابعته المسلسلات التلفزيونية في الموسم الرمضاني الحالي، ويترقب المحاكمة التي ستجري للرجلين المذكورين الشهر المقبل باهتمام خاص. ولم يغال عبد الحليم قنديل، وهو معارض بارز، عندما كتب أن ما سماها «الظاهرة السوزانية» تتجاوز حادثة مقتل مغنية صاحبة جسد ساحر إلى تقاطعات الحكم وسطوة رأس المال والنفوذ والسلطة في مصر، مع ما يمكن أن يستجدّ في القضية من تفاصيل تتعلق بالقضاء والقانون والسيادة والصلات مع الدول والعالم والخارج. وفيما بات السؤال في مصر ما إذا كان هشام طلعت مصطفى سيخرج من القضية « مثل الشعرة من العجين»، على ما يشيع بعضهم، أم سيُضّحى به فلا تغضب الإمارات، ولا يتسبب النظام السياسي بخيبة أمل جديدة للرأي العام المصري بعد تبرئة المتهم في قضية العبارة التي قضى في غرقها أكثر من ألف مصري، وهو النائب ممدوح مصطفى. وبعد تبرئة النائب هاني سرور في قضية أنابيب الدم الملوثة، فيما الأسئلة تتوالى على هذا النحو في الشارع المصري، وتساهم في إثارتها الصحافة بهمة ونشاط ملحوظين، يصير في محلّه اجتهاد الكاتب محمد عبد الحكم دياب أن القضية المنظورة تضع القضاء المصري أمام محك صعب.

ويثور نقاش واسع في مصر بشأن مسألة سوزان تميم وقتلها في هذه الأيام، بعد أن توطنت القناعة بأن القضية ليست مصرية بحتة، يمكن لضغط سياسي نافذ حرفها عن مسارها القضائي والقانوني، لا سيما أن السلطات تصرفت ببراغماتية وسرعة مشهودتين، وقد فاجأتها ربما كفاءة سلطات التحقيق والتحري في دبي، والتي ربما جاء إلى بال هشام طلعت أنها لن تصل إلى اتهامه، فعاد من سفر له إلى بلاده، ونشط في إطلاق تصريحات ينفي فيها أي علاقات له مع المغنية الحسناء. وفي المقابل، ينشط ملاكم عراقي بريطاني الجنسية، يدعى رياض العزاوي، في إطلاق الاتهامات للمذكور عن تهديده لسوزان تميم بالقتل بمليون دولار أو تترك العزاوي في مقابل 50 مليون دولار. يصرح هذا الرجل لصحيفة الصنداي التايمز بهذا الكلام، ويشيع مجددا أنه كان في خلال 18 شهرا أقامتها تميم في العاصمة البريطانية زوجا لها، الأمر الذي قد لا يستقيم مع عدم حصول المغنية الشابة على الطلاق من زوجها المنتج عادل معتوق، والذي كان ـ على ما تردد ـ قد دفع لزوجها السابق علي مزنر مليون دولار لتطليقها.

مسلسل مثير قد يختلط المؤكد فيه بالكاذب، غير أن الملف صار في أهم وجوهه مصريا، وتجاوز حكاية شابة جميلة جازفت بنفسها في علاقات أكبر منها، وربما حاولت اللعب في غير ساحتها، فكانت ضحية أوهامها عن نفسها، قبل أن تكون ضحية مبارزة مجنونة بين شهوات رجل هنا ورجل هناك. تجاوز الملف هذه التفاصيل إلى زوابع رجال الأعمال في مصر، وحظوة عديدين منهم لدى السلطة، وتوزيرهم وإيصالهم إلى مقاعد مجلس الشعب والشورى، لما يملكونه من أموال، وليس لكفاءات خاصة يحوزونها، واستهتار بعض هؤلاء بسمعتهم، وتلوث أسمائهم في قضايا فساد كبرى، ونجاحهم في الحصول على تغطيات تحميهم، وفي أن يكون لهم نفوذهم على الحكومة والسلطات. قد يخرج هشام طلعت مصطفى من واقعة مقتل سوزان تميم بريئا، وسيكون لمثل هذه البراءة تداعياتها الشديدة الإثارة. وقد تثبت عليه التهمة، وحينها، ستشتد في مصر وطأة أسئلة أخرى، منها مثلا عن أي تربية عسكرية كان عليها ضابط أمن دولة سابق خضع لدورات تدريب عليا في أميركا وغيرها، يؤجر نفسه ليكون قاتلا، لم يفلح بدهس سوزان تميم في لندن، على ما قيل، ونجح في ذبحها في دبي. وفي سيرة هذا الرجل محطات من التسلق بارعة، وزواج من أخت وزير ثم تطليقها، وفيها مغامرات مالية وعمولات وتربحات كبيرة.

هي قصص تناسلت من جريمة قتل في شقة في دبي، استمر التخطيط لها عاما، على ما صار مؤكدا، ويُحسب للصحافة الاستقصائية المصرية والمستقلة والمعارضة وبعض القومية، أنها تقوم بدور مسؤول في تظهير كل خيوطها المتصلة بتغول الفساد في الفضاء السياسي العام، والذي يتربع في صدارته رجال أعمال شرهون، بعضهم له نجاحاته، وآخرون يخوضون صراعاتهم مع بعضهم، كما هشام طلعت مصطفى وحروبه مع غريمه رجل الأعمال البارز في تجارة الحديد النائب أحمد عز (تزوج من زميلة له في مجلس الشعب بعد إقناعها بالتخلي عن مقعدها النيابي!). هو عش الدبابير الذي لكل مستويات السلطة، القضائية والتشريعية والتنفيذية، مطرح فيه، عبر وأقام فيه جسد سوزان تميم، فكان ما كان، وثمّة ما سيكون أيضا مع فصول المحاكمة التي تبدأ بعد أسابيع.

سوزان تميم.. الجريمة في دبي وارتداداتها في مصر
 
11-Sep-2008
 
العدد 43