العدد 43 - بورتريه | ||||||||||||||
خالد أبو الخير
كتنويع مواتٍ على أثاث منزل تطغى عليه رسوم طيور صينية، حلقت منذ زمن. تجاورها لوحة نائية لـ«غيفارا» وشمعة لم توقد بعد.. استقبلتني سيدة لا تنوء بحمل السنين، مشرقة، منتصبة القامة، كحد سيف أو نصل منجل. رأت إميلي نفاع النور في مدينة السلط في العام 1932، ولا تكاد تدير ظهرها لطفولتها في تلك الأحياء التي تسكننا، حتى تطل صورة والدها عيسى خليل نفاع، فتتردد للحظات قبل أن تلقي بتعب العمر في أحضانه، أو تكاد. «والدي كان علمانياً تقدمياً، وسابقاً لزمانه، تأثر بأفكار طبيب لبناني ماركسي كان جارنا في عمّان يدعى إبراهيم الصليبي. لم يكن يمايز بين الأولاد والبنات، ويعتبر أن من واجبه أن يعلمهم ويمنحهم الفرص نفسها، بل رفض توزيع تركته قبل وفاته، وترك الأمر لعائلته كي تتفق فيما بينها». بعيد انتقال العائلة إلى عمّان التحقت نفاع بالمدرسة الأهلية التي تميزت بثراء الحياة الاجتماعية العامة فيها، فضلاً عن احتوائها على مكتبة كبيرة ومتنوعة، قرضت معظم كتبها، كما شاركت في عرضين مسرحيين لشكسبير ومارست شتى أنواع الرياضات. «أهم ما ميز المدرسة الأهلية انفتاحها الكبير وعدم انغلاقها، ما انعكس إيجاباً على الطالبات». انقسم شقيقاها آمال وكمال ما بين شيوعي وقومي عربي في أثناء دراستهما في الجامعة الأميركية ببيروت، وكثيراً ما ارتضيا أن يحكّمانها في خلافاتهما النظرية، إبان قضائهما العطلةَ الصيفية في عمّان. لكن أحكامها كانت كثيراً ما تميل لنصرة آمال، الذي ترك تأثيراً فكرياً بالغاً عليها، فقدمت طلب انتساب للحزب الشيوعي في العام 1954. سافرت في العام التالي إلى وارسو للمشاركة في مهرجان الشباب الطلابي، وأمكنها هناك أن تطّلع على الويلات التي تركتها النازية: عمارات مهدمة، أفران غاز حرق البشر، ومن ضمنهم أطفال ما زالت أحذيتهم ماثلة للعيان. وحين عادت، عقدت العزم على النضال من أجل السلم والحرية، وتجنيب العالم مزيداً من ويلات الحروب. مفاجأة أخرى كانت بانتظارها في عمّان، فقد وُضعت على القائمة السوداء ومُنعت من السفر حتى العام 1967، حيث كانت إميلي واحدة من ركاب طائرة للصليب الأحمر تحمل جرحى من حرب حزيران، إلى بيروت. ومنها إلى هلسنكي لحضور مؤتمر النساء الديمقراطي العالمي. وتصادف أنها سمعت في المذياع قصة نازحين جرفت مياه الأمطار مخيمهم الذي أقيم على عجل، فروت قصتهم في المؤتمر وبكت.. وأبكت المشاركات. بعد إنهائها الثانوية العامة من المدرسة الأهلية في العام 1952، حصلت على دبلوم في الإدارة من المعهد الثقافي الأردني، وكانت تحلم بدراسة الصحافة في جامعة القاهرة، لكنها مُنعت من السفر بسبب فرض الإقامة الجبرية عليها في ذلك الوقت. «كان المفروض أن يتم سجني.. وعندئذ سأكون أول سجينة سياسية في الأردن.. غير أنه لم يكن هناك سجن للنساء السياسيات بعد». عملت في التدريس لفترة ثم في شركة تخليص، قبل أن تنتقل للعمل لمدة 7 سنوات متتالية في البنك الأهلي. تزوجت إميلي «عن طريق الحزب» بحسب تعبيرها، فقد كان زوجها خالد حمشاوي رفيقاً لها. «لولا خالد ما تمكنت من القيام بجزء كبير من عملي، وأنا أدين له بحمل جزء كبير من المسؤولية ودفعي دائما إلى أمام». لهما ابنتان، ديما وهي مهندسة خريجة موسكو، وفالنتينا، سميّة رائدة الفضاء الروسية «فالنتينا تريشكوفا» التي زارت عمّان في العام 1969، حين كانت إميلي حاملاً ووعدتها بأن تطلق اسمها على طفلتها القادمة. تعمل في مهنة والدتها طبيبة أسنان. وبعد مسيرة حياة يكتنفها الكثير من الصعاب تؤكد: «لم أندم.. صحيح أنني مررت بتجارب قاسية في حياتي، وهناك نساء كثيرات ناضلن ومررن بالظروف نفسها، لكننا صمدنا. أتحدث عن نفسي وأعتز بأنني صمدت أمام هذه التجارب وخرجت منها أكثر تصميماً على مواصلة النضال بشقيه السياسي ولأجل المرأة». وحول ما تحقق على صعيد المرأة، تشرح أن إيمانها بأن مجتمعنا لن يتطور ما دام نصفه الآخر مشلول، هو ما دفعها للنضال منذ العام 1955 مع المحامية إميلي بشارات، من أجل منح المرأة حقوقها السياسية، وهو الأمر الذي «لم يتحقق حتى الآن». لكنها ترى «أن الكثير تحقق للمرأة جراء ذلك النضال، وما زال هناك الكثير من المطلوب تحقيقه». على الصعيد السياسي تجادل بأن «هبّة نيسان كانت إحدى نتائج النضال السياسي للحزب الشيوعي والأحزاب الأخرى على مدى عقود»، وتشير بعين فاحصة إلى أننا «نلمس تراجعاً هذه الأيام عما كان عليه الحال في برلمان 1989، فهناك تمرير لقوانين أقرب للعرفية مثل قانون الاجتماعات العامة وقانون الجمعيات». الخلافات التي طرأت على الحزب الشيوعي نهاية التسعينيات، وما تداوله بعضهم من اتهامات لها بالتعاون مع وكالة التنمية الدولية الأميركية لتنفيذ برنامج تحديد النسل، تقول إميلي حولها: «إنها افتراءات استهدفت النيل مني، وأؤكد أننا لم نتسلم أي فلس من تلك الوكالة، بل رفضت تلبية 3 دعوات لزيارة الولايات المتحدة مع قيادات نسائية أخرى، والمرة الوحيدة التي زرت فيها نيويورك كانت بدعوة من الأمم المتحدة». وكان لافتاً أن مسؤولاً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي حدد الموقف من الخلاف داخل «الشيوعي الأردني» بقوله في احتفالات الذكرى الأربعين للحزب الشيوعي الكوبي: «نحن مع إميلي». ناضلت طويلاً لإقرار الكوتا النسائية في الانتخابات النيابية، التي عاكستها حين ترشحت عن المقعد المسيحي في الدائرة الثالثة بعمان في انتخابات 1997 وحازت 2292 صوتاً، وهو عدد فاق ما ناله مرشحون مسلمون. كان ترتيب الفائزين منهم كالتالي: علي أبو الراغب 4315، رعد البكري 1306، لطفي البرغوثي 1044 صوتاً، وحلت توجان فيصل ثانيا عن المقعد الشركسي ب4227 صوتاً.. يصفها رفيق سابق لها بأنها «مناضلة صلبة، تتمتع بشخصية قوية وحضور بارز». تصطفي من الألقاب لنفسها لقب «الناشطة السياسية»، غير فيها ما يذكر بـ الـ«لاباسيوناريا» (La pasionaria)، الاسم المستعار الذي حملته عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسباني ورئيسة الحزب إبان الحرب الأهلية «دولوريس إباروري» (Dolores Ibarruri)، التي اشتهرت على لسانها عبارة: «من الأفضل الموت وقوفاً على القدمين من العيش على الركبتين». فضلاً عن الشعار الشهير: «pasaran no» الذي يعني بالعربية: «لن يمروا». لعلها تذكّرت مشاهد «غرينيكا بيكاسو» وهي تسافر إلى لبنان إبان حرب تموز/يوليو 2006، مستخدمة طرقاً فرعية بعد تدمير إسرائيل للجسور وعقد المواصلات، حتى حطت في الضاحية الجنوبية لبيروت وهزها مشهد امرأة انتصبت وسط الدمار، تبحث في خراب بيتها دون كلل، وحينما سألتها عمّ تبحث؟ أجابت: أفتش عن كراريس أولادي!. فانثالت عليها باكية. عندها، ربما رن صوت أجراس هيمنغواي تقرع ملء اليباب. طيور اليشب الصينية ما زالت تحلق في بيتها، وصورة نائية لغيفارا، وشمعة لم توقد بعد. تذكرتُ مقطعاً وداعياً من قصيدة لشاعرة صودف أنها شيوعية، هي أنا أخماتوفا: «في بطرسبورغ سنلتقي ثانية كما لو أننا دفنّا الشمس هناك تلك كانت السنة الأخيرة». |
|
|||||||||||||