العدد 43 - بورتريه
 

محمود الريماوي

يجمع علي (مفلح عبدالله) محافظة بين الكفاءة الأكاديمية العالية، والنشاط البحثي داخل أسوار الجامعة وخارجها، إلى جانب عضويته وحضوره في هيئات فكرية في الأردن والعالم العربي . نجح في هذه الميادين، وأفلح خلال ذلك في إعلاء اسمه كشخصية مستقلة فوق الاستقطابات الضيقة. وهو ما يجعله يردد هذه الأيام، أنه لا يتطلع وقد أتم السبعين من شبابه، لأي منصب أو موقع حكومي، وأن انحيازه للعمل الأكاديمي نهائي لا رجعة عنه ولا بديل له .وقد سنحت له من قبل فرصة تبوؤ مناصب رفيعة، لكن ابن قرية كفر جايز، وبعد تسع سنوات أمضاها في العمل الدبلوماسي بين بون وتونس والجزائر والقاهرة فضل الالتحاق بالجامعة الأردنية منذ العام 1971. ومنذ ذلك التاريخ لم يتخل عن تلك المهنة.

في مرحلته الدبلوماسية في بون تعلم علي محافظة اللغة الألمانية وتلقى دروساً مكثفة في الموسيقى الكلاسيكية، ودخل مدرسة لتعلم الرقص وهو في الرابعة والعشرين من عمره. يستعيد هذه الذكريات بزهو مشدداً على تأثره الباقي بـ«الألمان»: التزامهم وانضباطهم بالقوانين وتعلقهم بالعمل.

قبل ذلك تأثر تأثراً بالغاً بتجربة إقامته في دمشق ودراسته في الجامعة السورية كطالب مبتعث، وهو الذي كان منخرطاً في حزب البعث منذ دراسته في ثانوية اربد. كانت سورية تحفل بحياة ثقافية وسياسية وإعلامية نشطة في أواسط خمسينيات القرن الماضي قبل أن تعرف التأميم. «لم أشعر هناك أني خارج وطني» وحدث أن بقي هناك بعد تخرجه العام 1959 من كلية الآداب قسم التاريخ، والتحق بسلك التعليم، فقد صودف أن البلدة كفر جايز (سبعة كيلومترات عن اربد) كان مغضوباً عليها في فترة الأحكام العرفية، ففضل مؤقتاً الامتناع عن العودة .وخلالها نال شهادة الدبلوم في التربية. يستذكر أنه عمل في دمشق في تصحيح أوراق البكالوريوس. وكانت اللجنة تضم سيدات مربيات من «علية القوم» وكان الرجل الشاب الوحيد وغير السوري بينهن، ومنهن زوجة أكرم الحوراني والشاعرة ملك العيسى، وزوجة كل من محسن البرازي وعادل العوا.

لدى عودته للوطن العام 1961 عين معلماً في ثانوية الحسين بن علي في الخليل، وقد أمضى فيها أسبوعاً واحداً ليتم تعيينه بعدئذ في ثانوية رغدان المدرسة الأهم حينذاك في العاصمة، وكان متقارباً في العمر مع طلبته ومنهم زهير أبو الراغب والمحامي شاهر كرزون.

في العام 1962 قرر رئيس الوزراء وصفي التل تطوير الجهاز الدبلوماسي بحيث لا ينخرط في هذا السلك، إلا من كان يحمل شهادة جامعية وكذلك الحال بالنسبة للمحافظين في وزارة الداخلية. تقدم لامتحان في الخارجية ونجح مع عبدالحميد شرف وفواز شرف. وبدأت منذ ذاك مسيرته في العمل الدبلوماسي. وكان تخلى عن عضويته في حزب البعث عقب الانقسامات التي عصفت بهذا الحزب القومي. حمله عمله الدبلوماسي إلى باريس في العام 1968 وهناك تقدم بأطروحته عن العلاقات الأردنية البريطانية منذ نشأة الإمارة في العام 1921 حتى العام 1957.

بعدئذ انتقل لبضعة اشهر إلى السفارة الأردنية في القاهرة، في تلك الأثناء تولى صديقه السفير عبدالله صلاح وزارة الخارجية في حكومة وصفي التل. وكانت الفرصة سانحة لتزكيته سفيراً.. لكن محمود السمرة، عميد كلية الآداب، استجاب مرحباً بطلب علي محافظة الالتحاق بالجامعة الأردنية الناشئة، التي كانت تشكو من نقص في كادرها التعليمي. منذ ذاك وقع الطلاق النهائي بين علي محافظة والعمل الدبلوماسي و«اقترن» بالسلك الأكاديمي (شريكة حياته وأم أبنائه نابلسية من عائلة شقو).

يجد علي محافظة نفسه في الجامعة والبحث العلمي والنشاطات الفكرية. يأخذ على الأكاديميين الأردنيين تهافتهم على المناصب الحكومية، وقلة منهم، في رأيه، نجحوا في المواقع الحكومية التي تولوها، أما الأكثرية فقد خسرت موقعها الأكاديمي دون أن تثبت الجدارة في الموقع الحكومي. يعتز بموقعه الجامعي ويعتبره مشرفاً لصاحبه ويضاهي، على الأقل، المواقع الحكومية الرفيعة. ينظر بإكبار إلى مهنة التعليم التي يتم تبخيسها اجتماعياً، بما في ذلك معلم الصفوف الابتدائية، فمهمته جليلة في صياغة العقول وصقل شخصية الناشئة.

عمل محافظة رئيساً لجامعة اليرموك ورئيساً لجامعة مؤتة، ويشدد على استقلالية الجامعات وعلى دورها بوصفها مراكز للإشعاع العلمي والمعرفي، وأن تقود المجتمع لا أن تنعكس سلبيات المجتمع عليها، كما يحدث منذ سنوات.

لا يعرف عن محافظة نزعة راديكالية أو تغييرية وهناك من يراه «مقبولاً حكومياً» ما مكنه من تقلد مناصب رفيعة. يرد على ذلك بأن لا خطوط حمراء أمام فكره وتفكيره، وأنه يعمل في حقل المعرفة والثقافة أساساً لا في الحقل السياسي.

العام 2001 أصدر كتابه «الديمقراطية المقيدة - حالة الأردن» وقد منع الكتاب لخمسة أعوام قبل الإفراج عنه، وهو يتضمن توثيقاً لمسيرة التحول الديمقراطي والقوانين والإجراءات ذات العلاقة، وجميع مصادر الكتاب أردنية ومنشورة. مع ذلك نظر للكتاب بغير رضا. ولم يتضمن عشرة بالمئة على ما يقول محافظة مما يتضمنه كتاب «أسد الأردن» لآفي شلايم، من نقد. لكن سامرالحي لا يطرب .في رأيه أن الحالة الديمقراطية ما زالت تتعرض للتقييد.

الى هذا الكتاب أصدر محافظة 14 كتاباً تتناول تاريخ الأردن المعاصر والحديث وتاريخ العرب وبالذات تاريخ فلسطين، وبين مؤلفاته ثلاثة كتب تتناول المواقف الألمانية إزاء فلسطين والوحدة العربية. بهذا لم تفارقه الانشغالات الألمانية، التي بدأت معه قبل أكثر من أربعة عقود. وعلى ذلك يزخر سجله بمئات الدراسات وأوراق البحث، وقد شارك حتى الآن مشاركة فاعلة في 55 مؤتمراً علمياً، وشارك في إعداد 66 كتاباً إلى جانب مؤلفاته المنفردة.

يمضي علي محافظة جل أوقاته في مكتبته العامرة التي تشغل غرفتين كبيرتين في منزله في ضاحية الرشيد، وتضم نحو عشرة آلاف كتاب بالعربية والألمانية والفرنسية والإنجليزية وهي اللغات التي يتقنها.

لا يقاطع الإنترنت بل يعمل عليه أحياناً ويفيد منه في التوثيق، وبخاصة بما يتعلق بالمعلومات الحديثة.لكنه ينتسب لجيل لا يجد سحراً يضاهي سحر الكتاب المحفوظ والمقتنى.

سبعة عقود بدأها الفتى علي في كنف أسرة ريفية كادحة في قرية كفر جايز التي تطل على منارة حيفا (أضواء المنارة الخلابة كانت تضيء باحة بيتنا في الأماسي، وكنا في طفولتنا نخلط بين ضوء المنارة وبين التماعات البرق). وما زال يحتفظ بروح شابة وثابة، وبيقظة عقلية: «لن تنصلح أحوالنا إلا إذا قرأنا تاريخنا المعاصر وإخفاقتنا بمنهج علمي صارم ونستخلص العبر بأمانة وجرأة».

وهو ما ينسجم مع تصنيفه لنفسه: قومي مستنير وديمقراطي ليبرالي.

علي محافظة: تأثير الحقبتين السورية والألمانية!
 
11-Sep-2008
 
العدد 43