العدد 42 - كتاب | ||||||||||||||
لرمضان في مدينة القدس مذاق آخر، فالقدس ليست مثل أي مدينة أخرى؛ المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، الذي يضفي على جو المدينة روحانية فريدة، ربما كان مبعثها وجود الصخرة المشرفة، تلك القطعة الحجرية التي كانت همزة وصل بين الأرض والسماء. هذه الصلة الخاصة بمدينة القدس، كانت تستحضر في الاحتفالات الدينية التي تشهدها المملكة؛ الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والهجرة النبوية، والمولد النبوي الشريف، إضافة إلى خطبة وصلاة كل جمعة، وهي مناسبات كانت تقام في المسجد الأقصى، ومنها كانت تنقل هذه الاحتفالات عبر أثير دار الإذاعة الأردنية في بث حي ومباشر، فقد كانت القدس، منذ وحدة الضفتين عام 1951، العاصمة الروحية للمملكة الأردنية الهاشمية، وفيها كانت دار للإذاعة في المملكة، هي نفسها التي كانت تنقل هذه الاحتفالات عبر أثيرها. وامتدادا للجو الروحي ذاك، فإن ثبوت هلال رمضان كان يعلن من الحرم القدسي، حيث كانت تطلق المدفعية طلقاتها إعلانا ببدء الشهر الكريم؛ وعلى إثر ذلك كانت جموع المقدسيين صغارا وكبارا، رجالا ونساء، يسرعون إلى رحاب الأقصى لأداء الصلوات؛ صلاة العشاء، صلاة التراويح والصلوات الأخرى، في مشهد إيماني فريد، حيث كانت تمتلىء ساحات الحرم بجموع المصلين، بمن فيهم الأطفال الذين كانوا يجوبون الشوارع والحارات وهم يرددون أغنية "يوحيا" تلك الأغنية التي كانت تنطلق على ألسنة أطفال تملؤ نفوسهم البريئة السعادة ويغمرهم فرح طاغ وهم يطوفون بمنازل أحياء القدس بيتا بيتا ويقفون ببابه ليملأ أهله جيوبهم بالحلوى، فيما يطوف آخرون بالقناديل الرمضانية الملونة المزركشة، التي لم تكن تظهر إلا في هذا الشهر تحديدا. عند موعد السحور كان المسحراتيون يجوبون الأزقة والأحياء على ضربات طبلاتهم التي كانت تترنم بإيقاع لا تخطئه الآذان داعية النيام إلى القيام .. يا نايم وحد الدايم .. عقب كل صلاة، كان المقدسيون يتجمعون حول شيوخهم المعروفين بعلمهم، يستمعون إلى الدروس الدينية التي كان يلقيها نخبة مختارة منهم: الشيخ عبد الله غوشة، الشيخ سعد الدين العلمي، الشيخ الأنصاري، الشيخ أسعد بيوض التميمي والشيخ عبدالحميد السائح وغيرهم رحمهم الله جميعا. أما قراء الأقصى في رمضان، فكانوا يأتون من مختلف البلدان، وخصوصا الشقيقة مصر، وكان هؤلاء في العادة من أكبر قراء عصرهم من أمثال الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ أبو العينيين شعيشع، رحمهم الله، إضافة إلى القراء المحليين وعلى رأسهم مقريء الأقصى الشيخ محمد رشاد الشريف –أطال الله عمره- والمرحوم المقرىء الشيخ عبد الله يوسف، الذي نشأنا على صوته العذب، وما زلنا إلى اليوم، نستحضر رمضان كلما سمعنا الأذان بصوته المميز؟ في أيام الجمع، وفي العشر الأواخر من رمضان، كان يؤم المدينة جموع غفيرة من أبناء المدن والقرى في ضفتي المملكة، فتغص بهم شوارع القدس في البلدة القديمة داخل السور. أما ساحات الأقصى الرحبة فقد كانت مهيبة المشهد، إذ كانت تبدو مثل يوم الحشر. فالمكان على رحابته واتساعه كان يضيق بهذه الآلاف. وقد كان لهذا الحضور العظيم أثر كبير في إنعاش حركة الأسواق في المدينة فالحوانيت لا تكاد تغلق ليلا أو نهارا. أما مائدة الإفطار المقدسية فكانت – شأنها كشأن موائد الإفطار في مدن المملكة- تفيض بأطايب الطعام والشراب والحلوى، وبخاصة طبق القطايف الكبير. كما كان التواصل والتكافل –وأظنه لا يزال- سمحة المجتمع المقدسي، وبخاصة في رمضان. كان تبادل الطعام بين الجيران أمرا عاديا، وما زلت أذكر كيف كانت الوالدة – رحمها الله- تُحمّلني، وأنا فتى صغير، أطباقا مما كانت تعده لنا للإفطار، وترسله لجيراننا الذين كانوا يردون التحية بأحسن منها. وحتى اليوم ما زلت أذكر رحلة العذاب في الحصول على صحن الحمص الذي كان ضروريا لمائدة رمضان، حيث كنت أمضي الساعات أمام البائع للحصول عليه وسط تزاحم شديد، ففي ذلك الوقت كان "معلم الحمص" يدق الحمص بيده، فلم يكن الحمص الجاهز الذي يطحن بالماكنة معروفا آنذاك. إنها أيام جميلة لا تنسى، لها في الذاكرة مكانها الذي لا يمحى، وفي القلب غصة على ما آل إليه أمر القدس في ظل الاحتلال الصهيوني الغاشم. نسأل الله أن يجعلنا ممن يشاركون في تحريرها منه، ليعود للقدس بهاؤها وترجع إليها طيورها المهاجرة التي كانت غادرتها يوما تحت أزيز رصاص المحتلين. |
|
|||||||||||||