العدد 42 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي أدخلت الحياة الراهنةُ الإنسان في "سوبر ماركت" كبير لا حدود له، وجعلته يدور داخل دوامة الاستهلاك، وكبلته في حاجات مادية، أغلبها زائف، وأقلها أساسي. لذا فإن الدرس الرمضاني، الذي يجمع البعد النفسي المعرفي بالبعد الجسديa، كفيل بكبح جماح رغبات الناس في الأشياء المبهرجة والمزوقة، وتعديل سلوكهم الاستهلاكي، إن أرادوا، ليس بالامتناع البيولوجي فقط، بل بتعديل رؤيتهم لمعنى الحياة نفسها، والتفكير في كيفية العيش، فضلاً عن تجاوز الأنانية والرياء. لقد واجه الفن، في العديد من أشكاله، التحدي الاستهلاكي ومنطق السوق، وفضح الأساطير والطقوس المعاصرة التي تدعو للشراهة واللهاث وراء المنتجات الاستهلاكية. في هذا السياق تحضر مسرحية "لماذا يا إيزيدور؟»، التي يفكك فيها الكاتب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا، بمقاربة ساخرة ولاذعة، أساطير المجتمع الاستهلاكي، والقيم الزائفة للطبقة البورجوازية في العالم الرأسمالي، من خلال رؤية طليعية، شبيهة برؤية مسرح العبث، لهذا المجتمع الهش، المطواع، الذي تختلط عنده الحقائق بالأكاذيب والأوهام، فاقد القدرة على النقد والتمييز، القائم على الزيف وتقديم السلعة في إطار أقرب للتمثيل والخداع. وظّف مورافيا، في صوغ الحوار المسرحي، أسلوباً يحاكي الأسلوب نفسه الذي تعتمده وسائل الإشهار في الترويج للمنتجات الاستهلاكية، لكنه يضفي عليه طابعاً غرائبياً وكاريكاتورياً ليفضح أقنعة التضليل والمكر التي ترتديها شركات إنتاج السلع والموضة لإشاعة ثقافة الاستهلاك، وتحويلها إلى تقاليد وأعراف تقدّس المظاهر والخزعبلات. في المسرح الأردني تحضر مسرحية «سوبر ماركت رمضان»، التي كتبها وأخرجها ومثّل فيها خالد الطريفي، وعُرضت ضمن فعاليات أيام عمان المسرحية الثالثة في العام 1996. وهي تشرّح، في مدلولها المركب، استهلاك بعض الفئات في المجتمعات العربية للقيم والعادات والتقاليد الغريبة عن ثقافتها، وتقديس الكماليات والحاجات الشكلية. وكما في تجاربه المسرحية السابقة أعاد الطريفي في عرض «سوبر ماركت رمضان» إنتاج حكاية من الموروث العربي، هي حكاية «قيس وليلى»، ليحمّلها دلالات معاصرة من خلال ثلاث لوحات (حكايات) نسج أحداثها بالارتجال، والتشخيص، والمسرح داخل المسرح، عبر تداخل زماني ومكاني أسهم في هدم الفواصل التقليدية بين النص والعرض، وصاغها بأسلوبه المعروف القائم على الفرجة، والجو الاحتفالي (الرقص والغناء الشعبي)، والحس الساخر، والأداء السردي الذي يعتمد على «الحدوتة» بإيحاءاتها وتمثيلاتها الرمزية لقضايا الواقع الاجتماعي والسياسي الراهن. حكاية العرض الإطارية تقوم على اختلاف أفراد أسرة شخص اسمه «فرحان» (مثّل دوره محمد رستم) حول العرض المسرحي المقترح تقديمه للجمهور. هذا الكشف عن طبيعة اللعبة المسرحية يدخل في سياق ما يُعرف بالمسرح الانعكاسي (الميتا- ثياتر)، حيث لا مكان للإيهام، بل ثمة إعلان صريح بأن ما يجري أمام المتلقي هو لعبة مسرحية بأدوات فنية. تتولد عن هذه الحكاية الإطارية، على غرار ألف ليلة وليلة، حكاية تجري في مدينة «كركوميا» حيث تقوم الملكة «بونبينا» (مثلتها رينا خوري) بتعميد الفارس المغوار «رمضان» (مثله خالد الطريفي)، ومنحه لقب الفارس الشعبي الديمقراطي الاشتراكي العظيم! (سوبر ماركت لكل الأيديولوجيات والمفاهيم المتناقضة المطروحة للاستهلاك السياسي، المعادل للاستهلاك السلعي). كما تتولد حكاية أخرى تجري في الغابة البنفسجية، ويتصارع فيها «شلوه» (مثله محمد رستم أيضاً) و«قيس» (مثله ياسر المصري) للفوز بقلب «ليلى».. وهي حكاية ذات طابع كاريكاتوري تكشف عن ظواهر الاستغلال والتسلط والهيمنة. وفي سياق آخر للحكاية يقدم العرض مبارزةً ساخرة بين الشقيقين «رمضان» و«قيس»، في تلميح واضح للصراعات السياسية والحروب الأهلية التي تستهلك أبناء البلد الواحد وخيراته، وتدمّر سبل العيش المشترك. لم تتح لي فرصة الكتابة عن هذا العرض أيام تقديمه، ولذا أستعين الآن بذاكرتي، وبالمقالة الوحيدة التي كتبها عنه محمود إسماعيل بدر في صحيفة «الرأي»، لاستذكار بعض التفاصيل الفنية التي تشكلت منها بنيته الإخراجية. لقد استثمر المخرج طاقات الممثلين بحرفية عالية لخلق نوع من التداخل المرن بين التمثيل والتشخيص والغناء اعتماداً على تقنية «التغريب»، وأوجد توازناً مرتبطاً بالحالة الشعورية وتطورها في أدائهم. من أجمل مشاهد العرض ذلك التصوير الكاريكاتوري للأحداث التي تجري في جزيرة «كركوميا»، إذ استطاع خالد الطريفي، من خلال أدوات بسيطة وتشكيل هندسي للممثلين، تصوير عرش الملكة وتعميدها للفارس رمضان ببلاغة مشهدية بصرية، عمقتها إضاءة «بسام الدبوبي» الذكية على أرضية المسرح وفي جنباته، والملابس والاكسسوارات التي صممتها «بشرى حاجو». كما أن محاولة المخرج استخدام عصا أشبه بالمكنسة لتتحول مع توالي الأحداث إلى علامات رمزية متغيرة، حصانا تارةً وصولجانا تارةً أخرى، كانت محاولةً جماليةً ودلاليةً تعي وظيفة المسرح الخلاقة في تحويل الأشياء الطبيعية في الواقع إلى عناصر فنية ذات إيحاءات متعددة. |
|
|||||||||||||